الغارة على العالم الإسلامي

الغارة على العالم الإسلامي

الغـارة على العـالم الإسـلامي
La Conquéte du Monde Musulman


تأليف

أ. لو شاتليه A. Le Chatelier


لخصها ونقلها إلى اللغة العربية

محب الدين الخطيب مساعد اليافي



(نشرت في جريدة المؤيد سنة 1330 هـ )

(وفي صحيفة الفتح سنة 1349-1350هـ/ 1921-1922 م)

نشره
قصي محب الدين الخطيب

طبع في مطبعتنا السلفية هذه الطبعات:

الطبعة الأولى في: 1350

الطبعة الثانية في: 1383

الطبعة الثالثة في: 1385

الطبعة الرابعة في: 1398

المطبعة السلفية - ومكتبتها

------------------------------------------------------------------------

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد الهداة والدعاة والمصلحين، سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

**************

في يوم من أيام سنة 1330 هـ وكنت أشتغل في تحرير المؤيد – أقبل على زميلي السيد/ مساعد اليافي وقال:

- شيء جديد لم أكن أتوقعه !

قلت: وما هو؟

قال: إن (مجلة العالم الإسلامي (La Revue du Monde Musulman التي كانت إلى الآن مجلة اجتماعية أدبية، تحولت في هذا الشهر إلى مجلة تبشيرية ... أنظر: إنها قد أصدرت عدداً ضخماً ليس فيه غير بحث واحد وهو بحث تبشيري يدور حول ما تقوم به إرساليات التبشير البروتستانتية في العالم الإسلامي و[حول] ما قيل في المؤتمرات التي عقدتها تلك الإرساليات في أوقات مختلفة. وقد جعلت المجلة عنوان هذا البحث (الغارة على العالم الإسلامي) أو (فتح العالم الإسلامي).

قلت له: إن المجلة الفرنسية بنشرها هذا العدد الخاص بأعمال المبشرين البروتستانتت تقول للمبشرين الكاثوليك: انظروا كيف سبقكم الآخرون إلى الغارة والفتح، فيجب أن تضاعفوا جهودكم وتنظروا في أساليبهم فتستفيدوا منها... ونحن أيها الأخ – بصفتنا مسلمين – يجب علينا أن نعلم ما يكيده لنا هؤلاء وأولئك، وأن نجعل أمتنا على علم بما ينصب لها من شراك وما يبيَّت لها من شر. فأقترح عليك أن تترجم فصول هذا البحث فصلا بعد فصل وتنشره في المؤبد تباعاً فيقف المسلمون على ما يكاد لهم به من هذه الناحية.

فقال لي صديقي السيد/ مساعد: ولكن البحث طويل... والوقت الذي نعمل فيه هنا مشغول بالواجبات الأخرى.

قلت: نتعاون أنا وأنت على هذا الخير، ولا نعد هذا من واجباتنا في قلم التحرير، بل من واجباتنا نحو الإسلام والشرق. وأرى أننا عندما نفرغ كل يوم من عملنا اليومي تملى علىَّ ترجمة فصل من الفصول بأي الألفاظ شئت وأنا أصوغ ما تمليه علي بعبارة عربية ، فتتمكن من أداء هذا العمل بنصف الوقت اللازم له.

وفي نفس ذلك اليوم دفعنا للمطبعة مقدمة المسيو لو شاتليه Le Chatelier رئيس تحرير مجلة العالم الإسلامي بعد أن وطأنا له توطئة باسم قلم تحرير المؤبد.

وما كادت هذه المقالات المتسلسلة تنتشر في مصر والعالم الإسلامي حتى كان لها وقع عظيم جداً وبعثت اليقظة في كثير من الناس. ونقلتها عن المؤيد مجلات وصحف متعددة منها مجلة المنار في القاهرة، وجريدة الإخاء العثماني في بيروت – وضاق صدر كتّاب (مجلة العالم الإسلامي) نفسها وأمثالهم من أنصار التبشير والاستعمار من ذيوع هذه الفصول بين المسلمين، لأنهم يودون أن يقوم [المبشرون] بأعمالهم والمسلمون نيام. فدارت مناقشة بينهم وبين المؤيد حول هذا الموضوع تولى كاتب هذه السطور الإجابة عليها.

وقد جاءت في هذه الأيام مناسبات ذكرت فيها مقالات (الغارة على العالم الإسلامي) لكثير من أصدقائنا فكنت أراهم لا علم لهم بها، لأن هذا شيء مضى عليه نحو عشرين سنة فاقترحوا علىَّ أن أعيد نشر ذلك في الفتح ، وأن أضعه بين أيدي الناس في كتاب مستقل.

توقيع

(محب الدين الخطيب)

----------------------------------------------------------------------


توطئة من المؤيد

من عددها الصادر في 20 ربيع الثاني 1330هـ / 1912 م



في فرنسا جمعية اسمها (الإرسالية العلمية المغربية)



في فرنسا جمعية اسمها (الإرسالية العلمية المغربية) مؤلفة من المستشرقين الذين درسوا الكتب الإسلامية والعادات الشرقية واللغة العربية وغيرها من لغات المسلمين خدمة لجامعات فرنسا السياسية والدينية والاقتصادية ، وقبل خمس سنوات أخذت هذه الجمعية تنشر في باريس مجلة كبرى مصورة تصدر في كل شهر اسمها (مجلة العالم الإسلامي) يكتب فيها كبار المستشرقين، كالمسيو لو شاتليه رئيس تحريرها ، وهو أيضاً أستاذ المسائل الاجتماعية الإسلامية في احدي جامعات فرنسا، وكالمسيو لويس ماسينيون المستشرق الذي كان في مصر منذ سنتين، وغيرهما من المشتغلين بالموضوعات الإسلامية.

ويذكر القراء أننا كنا ترجمنا بعض أبحاث هذه المجلة منذ صدورها ليطلع القراء على آراء الكتاب الفرنساويين في آدابنا وعاداتنا. وآخر ما ترجمناه عنها فصول للمسيو شاتليه عن (المركز الاقتصادي للعالم الإسلامي).

ولقد كانت هذه المجلة قبل الآن ظاهرة بمظهر علمي تكون الغايات السياسية فيها في الدرجة الثانية ... إلى أن تم لفرنسا احتلال المغرب أولاً ثم دخلت فارس في طورها الأخير وحل بعد ذلك ما حل بطرابلس فظهرت هذه المجلة كغيرها بمظهرها الحقيقي الذي تكون فيه الدروس العلمية ذريعة لغايات سياسية ودينية.... من ذلك أن (مجلة العالم الإسلامي) نشرت في أحد أجزائها الأخيرة بحثا مطولا أو كتابا مفصلا عنوانه الغارة على العالم الإسلامي أو (فتح العالم الإسلامي) أثبتنا عنوانات فصوله قبل هذه التوطئة ليطلع القراء على ترجمة هذه الفصول واحدا بعد واحد فيعلموا كيف تتبدل اللهجات بتبدل الحالات ، وتتبين المقاصد مع انكشاف الحوادث.

----------------------------------------------------------------



بحوث الكتاب

مقدمة المسيو لو شاتليه عن إرساليات التبشير البروتستانتية

تاريخ إرساليات التبشير

مؤتمر التبشير الأول في القاهرة (مصر) سنة 1906

مؤتمر التبشير الثاني في إدنبره (إنكلترا) سنة 1910

مؤتمر التبشير الثالث في لكنو (الهند) سنة 1913

التنظيم المادي لإرساليات التبشير

مقاصد المبشرين وآمالهم في المستقبل 

أدبيات إرساليات التبشير

النتائج



-------------------------------------------------------

مقدمة المسيو شاتليه

عن إرساليات التبشير البروتستانتية

________

لقد قلنا في سنة 1910 عندما كنا نخوض على صفحات هذه المجلة في موضوع السياسة الإسلامية:

"ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنياً قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت من فائدته. ويجدر بنا لتحقيق ذلك بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم الرهبان والمبشرون وغيرهم بها، لأن لهذه المشروعات أغراضاً متخصصة، ثم إنه ليس للقائمين بها حول ولا قوة في هيئتنا الاجتماعية التي من دأبها الاتكال على الحكومة وعدم الإقبال على مساعدة المشروعات الخاصة التي يقوم بها الأفراد، فتبقى مجوداتهم ضئيلة بالنسبة إلى الغرض العام الذي نتوخاه ، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنساوية ، نظراً لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة.

وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنساوية !"

هذا ما ارتأيناه يومئذ وسيظهر ما يؤيده في الفصول التالية المتعلقة بإرساليات التبشير البروتستانتي الأنجلو سكسونية والجرمانية الدائبة على العمل في العالم الإسلامي حتى أصبحت أهميتها تفوق بكثير ما اعتاد الفرنساويون أن يتصوروه، لأن النشاط وقوة الجأش التي يظهرها القائمون بأعمال هذه الإرساليات تختلف عن تلك التي تمتاز بها أمتنا.

وكنا منذ أمد بعيد نود أن نخوض في ذكر تفاصيل أعمال هذه الإرساليات التي اشتهرت بخططها ووفرة الوسائل التي أعدتها وتوسلت بها لمقاومة دين الإسلام.

وحسبنا أن نستشهد بإرسالية التبشير الكاثوليكية في بيروت لتكون موضوع التفكير والتأمل في فرنسا، إذ بالرغم من كون "كلية القديس يوسف اليسوعية" التي تدير أعمالها هذه الإرسالية لا تأثير لها على النشوء الفكري في المحيط الإسلامي، فإن التعاليم التي تنشرها وتبثها كان لها الحظ الأوفر في انتشار الأفكار الفرنساوية في سورية والقطر المصري.

نعم، إن غاية المدرسة اليسوعية وطريقة التعليم فيها تختلفان عن غاية وطريقة المدرسة الكلية الفرنساوية في غلطة (الآستانة) إلا أن النتائج كانت متقاربة من حيث تعميم التعاليم والأفكار التي تنشرها اللغة الفرنسية. ومن هذا يتبين لنا أن إرساليات التبشير الدينية التي لديها أموال جسيمة وتدار أعمالها بتدبير وحكمة تأتي بالنفع الكثير في البلاد الإسلامية من حيث أنها تبث الأفكار الأوربية.

إلا أن لإرساليات التبشير مطامع أخرى كما يتبين من الجملة الآتية التي أستخرجها من رسالة أرسلها إليَّ من جزيرة البحرين (قرب ُعمان) في 2 أغسطس سنة 1911 حضرة القسيس المحترم صموئيل زويمر منشئ مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية وهو يبني فيها صروح آمال شامخة على أعمال المبشرين البروتستانتت قال:

"إن لنتيجة إرساليات التبشير في البلاد الإسلامية مزيتين: مزية تشييد، ومزية هدم، أو بالأحرى مزيتي تحليل وتركيب. والأمر الذي لا مرية فيه هو أن حظ المبشرين من التغيير - الذي أخذ يدخل على عقائد الإسلام ومبادئه الخلقية في البلاد العثمانية والقطر المصري وجهات أخرى - هو أكثر بكثير من حظ الحضارة الغربية منه. ولا ينبغي لنا أن نعتمد على إحصائيات (التعميد) في معرفة عدد الذين تنصروا رسمياً من المسلمين لأننا هنا واقفون على مجرى الأمور و متحققون من وجود مئات من الناس انتزعوا الدين الإسلامي من قلوبهم واعتنقوا النصرانية من طرف خفي" اهـ

ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانتية وكاثوليكية تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوربية، فبنشرها اللغات الإنكليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يتحكك الإسلام بصحف أوروبا وتتمهد السبل لتقدم إسلامي مادي وتقضي إرساليات التبشير لبانتّها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها.

أما ما يقوله حضرة مكاتبنا "زويمر" عن وجود مئات من المسلمين اعتنقوا النصرانية سراً وينتظرون فرصة للجهر بها، فذلك أمر لا يمكننا البت فيه مع حضرة المكاتب.

على أنه ليس من الحوادث الغريبة أن يتنصر بعض أفراد ينتمون إلى أصل فارسي أو هندي، لأن اختلاف النحل والاعتقادات في هذه العناصر هو من مزاياها الاجتماعية وكذلك الحال في الوسط السامي المتصل بالأصل العبراني، ولكن من النادر المستغرب أن تقع حوادث التنصير في بيوت السادة العلوية وبين الياتان (الأفغانيين) الخلّص الموجودين في بلاد الهند أو مشايخ الهند وجيرانهم الأفغانيين والأتراك والتركمانيين والعرب الحقيقيين والبربر.

ولا ينبغي لنا أن نتوقع من جمهور العالم الإسلامي أن يتخذ له أوضاعاً أو خصائص أخرى إذا هو تنازل عن أوضاعه وخصائصه الاجتماعية، إذ الضعف التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإسلامية وما يتبع هذا الضعف من الانتقاص و الاضمحلال الملازم له، سوف يفضى - بعد انتشاره في كل الجهات إلى انحلال الروح الدينية من أساسها لا إلى نشأتها بشكل آخر.

على أن المناقشة في هذه المسألة لا طائل تحتها، لأن الآراء تنبعث من وجهة التفكير، فلنقتصر إذن على القول بأن سير العالم الإسلامي تدرج نحو انحلال أفكاره الدينية وزوالها، وذلك أمر طبيعي ممكن التحقيق، أما فرض تدرج المسلمين إلى اعتناق المسيحية فخارج عن حد الإمكان لأن المسلم كالمسيحي واليهودي لا تجذبه التعاليم العصرية إلى الاعتقادات الدينية.

ولكننا نعود فنقول: أنه مهما اختلفت الآراء في نتائج أعمال المبشرين من حيث الشطر الثاني من خطتهم وهو (الهدم) فإن نزع الاعتقادات الإسلامية ملازم دائماً للمجهودات التي تبذل في سبيل النصرانية. والتقسيم السياسي الذي طرأ على الإسلام سيمهد السبل لأعمال المدنية الأوربية إذ من المحقق أن الإسلام يضمحل من الوجهة السياسية وسوف لا يمضي غير زمن قصير حتى يكون الإسلام في حكم مدنية محاطة بالأسلاك الأوربية.

قد يظهر لإخواننا المسلمين أننا نتصرف في مستقبلهم بحرية وبلا تكليف، ولكن من منهم ينكر أن العالم الإسلامي أصبح هدفاً لغلطات فتيان جمعية الاتحاد والترقي الذين ورثوا عبد الحميد واستعانوا بوسائله السياسية بعد أن خلعوه ، ولم تكن أمامهم وسيلة لإنقاذ السلطنة العثمانية والخلافة الإسلامية غير تنظيم حكومة مؤلفة من ولايات إسلامية متحدة وكل وسيلة غير هذه كانت تؤدي إلى نتيجة لابد منها وهي تقسيم المملكة.

و نحن لم نرم الكلام على عواهنه، ولم نقصد غير تقرير حقيقة راهنة عندما نبهْنا المسلمين من قراء مجلتنا قبل احتلال طرابلس الغرب بستة أشهر - إلى ما تخبئه الأيام للآستانة التي ستقع بين مخالب ألمانيا وروسيا.

إن إرساليات التبشير البروتستانتية الأنجلو سكسونية تعلق أهمية كبرى على الحال الجديدة التي ظهر بها العالم الإسلامي، وقد رأينا أن نذكر معها إرساليات التبشير الألمانية لما عقد بينهما من الأواصر والروابط في مؤتمري سنة 1906 و سنة 1911 ولم يبق ارتباطهما مقتصراً كسابق عهده على تناوب كرسي الأسقفية البروتستانتية في بيت المقدس.

وليس من المستغرب - ونحن نبدي إعجابنا بأعمالها - أن نلح بمزاحمتها ومسابقتها خصوصاً وأن السيطرة على أهم الأسواق البشرية صارت متوقفة على هذه المزاحمة والمسابقة. 

وكنا نود لو كان في الوقت متسع لبسط القول وإيضاح مجرى الأمور في هذه المسألة بحذافيرها لأنها جديرة باهتمام رجال فرنسا بلا إضاعة وقت. إلا أننا اضطررنا إلى الاقتصار على جمع بعض أمور وقفنا عليها وسنبنيها هنا على قدر الإمكان.

ونحن نكتفي بعرض هذه الأمور من غير تعليق عليها لأننا اقتطفناها من مؤلفات وفصول شتى ونظمناها على الترتيب المتبع في هذه الظروف: وإن المسألة التي تهمنا سوف تبدد شكوك ذوي البصيرة والروية لدى اطلاعهم على ما نعرضه أمام أنظار قراء مجلة العالم الإسلامي. 

ونؤمل من ذوي الشأن في إرساليات التبشير البروتستانتتية أن لا ينكروا علينا انتهاج هذه الخطة التي هي بالطبع خطة مجلتنا وهم أعلم الناس بعواطفنا وشعورنا نحو عملهم الذي لا يمكننا أن نذكر أهميته إلا مقرونة بإلحاحنا في ذكر الضرورات التي تقتضيها السياسة الفرنساوية الوطنية، كما تحول مجوداتها إلى التعليم التابع لطريقة المدارس الجامعة الفرنساوية، وذلك أشد العوامل تأثيراً على بلادنا لتدخل في حلبة المسابقة لنشر التعليم العقلي. 



ا. لو شاتليه 

**************************************************************




تاريخ التبشير

اقتصرت مجلة العالم الإسلامي في هذا الفصل على تلخيص كتاب (مشروع التبشير) الذي ألفه المستر " أدوين بلس " البروتستانتي ثم أعاد طبعه قبل عشر سنوات فزاد عليه زيادات أخرى وسماه (ملخص تاريخ التبشير) ذكر فيه إرساليات التبشير البروتستانتية على اختلاف نزعاتها منذ نشأتها في القرون الغابرة إلى أيام الطبعة الثانية للكتاب مع بيان ما بين هذه الإرساليات من ارتباط وتضامن.

وقالت مجلة العالم الإسلامي: إن هذا السفر نفيس في بابه يتسنى لقارئه أن يقف على حقيقة أعمال الإرساليات البروتستانتية في بلاد الإسلام حتى أواخر القرن التاسع عشر إلا أننا ننكر على مؤلفه عدم إشارته إلى الإرسالية الكاثوليكية، وهذا موضع الضعف في كتابه بل في أعمال إرساليات التبشير جميعاً على اختلاف نزعاتها، ولو كان المبشرون الكاثوليك والبروتستانتت الذين يجتمعون في بلاد إسلامية ينتبهون إلى أن انقسامهم يحط من قدرهم ويقلل هيبتهم ويوطد أركان الإسلام لكانوا على الأقل يوهمون بأنهم متفقون ظاهراً، خصوصاً وأن انقسامهم هذا يمهد للإسلام السبيل لاستمداد مبادئ الحضارة من إرساليات المبشرين من غير أن يقتبسوا أفكارها الدينية. ولا ريب أن نخبة الأذكياء المسلمين في مصر وسوريا - عندما يقفون على هذه التفرقة الموجودة بين الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية والعلمانية التي تتجاهل كل منهن الأخرى - لا يترددون في الحكم على مذاهب النصرانية بأنها قد فقدت التوازن بالرغم من الخدمات التي تأتي بها الحضارة الأوروبية.

واستأنفت مجلة العالم الإسلامي بعد هذا الاستطراد كلامها على كتاب المستر بلس فقالت: إنه ينقسم إلى قسمين، الأول في تاريخ التبشير العام وطرائقه، والثاني في موقف الإرساليات البروتستانتية وأعمالها في البلاد.

ويقول المؤلف إن تاريخ التبشير المسيحي يرجع إلى صدر النصرانية ومبتدأ تأسيسها، ثم ذكر الذين قاموا بوظيفة التبشير بالنصرانية في القرون الوسطى فقال: إن "ريمون لول" الأسباني هو أول من تولى التبشير بعد أن فشلت الحروب الصليبية في مهمتها. فتعلم " لول " اللغة العربية بكل مشقة وجال في بلاد الإسلام وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة.

وفي الفصل الثالث ذكر المؤلف المبشرين الكاثوليك والدور الذي لعبوه في ثورة البوكسر الصينية وتدخلهم في شئون القضاء. وهنا انتقدت مجلة العالم الإسلامي الكاثوليكية على هذا المؤلف البروتستانتي اقتصاره على ذكر تاريخ المبشرين الكاثوليك في ثماني صفحات فقط وقوله إن المسلمين ينظرون إلى الطقوس والاحتفالات الكاثوليكية باشمئزاز. ووصفت المجلة هذا القول بأنه لا يشف عن محبة مسيحية...

وفي الفصل الرابع وصف المؤلف تتنظيم إرساليات التبشير في القرون الوسطى في الهند وجزائر السند وجاوه واختلاط المبشرين بالمسلمين منذ ذلك الحين. وأشار إلى " بترهيلنغ " الذي احتك بمسلمي سواحل إفريقية وإلى اهتمام هولنده بالتبشير في جاوة في أوائل القرن الثامن عشر حتى قسمت جاوة لهذه الغاية إلي مناطق لكل منها كنيسة ومدرسة ، وقال: إن عدد الذين تنصروا سنة 1721 بلغ 100.000 وكان النصارى في سيلان سنة 1722 (وكانت يومئذ تحت سلطة هولانده) يبلغ عددهم 424000 وتساءل عما بقي منهم الآن وقال: إن المسلمين كانوا فيها قليلين فصاروا الآن فئة كثيرة.

ثم ذكر تحريك البارون " دويتز " ضمائر النصارى سنة 1664 إلى تأسيس مدرسة كلية تكون قاعدة لتعليم التبشير المسيحي وتعلم فيها لغات الشرق للطلاب الذين يناط بهم أمر التبشير فارتأى أحد أحبار الكنيسة أن ُيعهد إلى الأروام بمسئولية تبشير الأتراك. ثم فشل البارون في مشروعه.

وسرد المؤلف تاريخ تنظيم الإرساليات البروتستانتية من دنمركية وإنكليزية وألمانية وهولندية وأخبار اتصال بعضها ببعض وأسماء الملوك والأمراء الذين كانوا عضداً لها ومؤيدين لأعمالها في القرن السابع عشر وما بعده في كل أقطار العالم.

وانتقل إلى البحث في أعمال هذه الإرساليات في القرنين الأخيرين فقال: إن المستر كاري هو الذي فاق أسلافه في مهنة التبشير ، فدرس لغة اللاتين واليونان والفرنسيس والهولنديين والعبرانيين كما تعلم كثيراً من العلوم. ولما نشر كتبه في التحريض على التبشير قوبلت بالاستحسان ففتح له باب الاكتتاب وذهب إلى الهند لهذا الغرض وصارت الأموال ترسل إليه، ثم طلب أن يرسل له رجال يؤازرونه في التبشير فتأسست سنة 1795 " جمعية لندن التبشيرية " وما عتمت أن تأسست جمعيات على شاكلتها في " اسكوتلندة " و " نيويورك " وانتشرت هذه الفكرة في ألمانيا والدانمرك وهولندة والسويد والنرويج وسويسرا وغيرها وتعذر على الإفرنسيين أن يقوموا بشيء من هذا القبيل لانشغالهم بالثورة التي آلت إلى الانقلاب المشهور.

وتأسست جمعيات فرعية كثيرة مثل " جمعية التبشير في أرض التوراة العثمانية ".

وبلغ الشغف بهذا العمل إلى أن تأسست إرساليات تبشير طبية على سبيل التجربة لتلحق بالإرساليات العامة فنجحت نجاحا باهراً، لذلك أخذت تنمو وتزداد وتألفت لها أقسام نسائية وأرسل بعضها إلى الهند والأنضول.

وفي سنة 1855 أسست " جمعية الشبان المسيحيين " من الإنكليز والأمريكان ووظيفتها إدخال ملكوت المسيح بين الشبان وعقد تلاميذ المدارس النصرانية في نورثفيلد مؤتمراً اجتمع فيه250 مندوباً عن 80 مدرسة تكفلت بتقديم 100 شاب للتطوع في نشر الدين المسيحي ومن هؤلاء تألفت " جمعية الشبان المتطوعين للتبشير في البلاد الأجنبية ".

ويقول المؤلف إنها لعبت دوراً مهماً في تبشير المسلمين على الخصوص لأن شعارها كان نشر الإنجيل بين أبناء الجيل الحاضر. ثم تبع ذلك تأسيس جمعيات التبشير في كل بلاد البروتستانت. وفي سنة 1895 تأسست "جمعية اتحاد الطلبة المسيحيين" في العالم وهي تهتم بدرس أحوال التلاميذ في كل الأقطار وبث روح (المحبة) بينهم فالتحق بها 100.000 طالب وأستاذ يمثلون أربعين قوماً، فنشأ عن وجود هذا العدد العظيم ميل إلى الانتفاع به، وذلك تأسست سنة 1902 " جمعية تبشير الشبان ". ومن وظائف هذه الجمعيات الأخيرة استمالة النساء والبنات والشبان والطلبة إلى استماع صوت المبشرين. ثم تقرر سنة 1907 أن تؤسس جمعية أخرى لتبشير الكهول فأسست وأخذت تباشر أعمالها وترفع التقارير بهذا الشأن.

هذا ملخص القسم الأول من كتاب المستر " بلس " فيما يتعلق بتاريخ إرساليات التبشير وأعمالها في بلاد الإسلام.

وأما القسم الثاني فخاص بذكر مراكز تنظيم هذه الإرساليات وإدارة أعمالها في كل قطر على حدة . وإلى القارئ ملخص هذا القسم:

أفريقيا

قال المستر " بلس ": إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق تقدم التبشير بالنصرانية في إفريقية . والمسلم فقط هو العدو اللدود لنا لأن انتشار الإنجيل لا يجد معارضاً لا من جهل السكان ولا من وثنيتهم ولا من مناضلة الأمم المسيحية وغير المسيحية. وليس خصمنا هو العربي الذي يرتاد البلاد للاتجار بالرقيق – لأن هذه التجارة صارت صعبة – بل إن هذا الخصم المعارض هو الشيخ أو الدرويش صاحب النفوذ في إفريقية أكثر مما هو كذلك في فارس فالشيخ والدرويش يجوبان شواطئ البحر الأحمر والنيجر والمغرب وواداي ويـبثان في الأهالي أن المهدي ينتظر ظهوره وسينشر الإسلام في كل الأقطار. وقد ظهر مهدي منذ سنين فحارب الإنكليز ثم توفى فتولى الأمر بعده خليفة غُلب على أمره.

أما الشيخ السنوسي العدو الألد للنفوذ الإفرنسي والإنكليزي فله تقاليد أخرى. 

ويقول المستر " بلس " إن طلبة الأزهر يعتقدون بالمهدي: وأما المغاربة فلا يزال يدور في خلدهم إمكان الجهاد، وهو يرى أن الملحمة الكبرى بين أوربا والإسلام ستنشب في غربي إفريقية أو في شمالها. ولا ينبغي أن نستدل على حقيقة هذه الملحمة المنتظرة بالقتال الذي حدث في السودان.

دخل المبشرون الكاثوليك ربوع إفريقية منذ القرن الخامس عشر أي في أثناء الاكتشافات البرتغالية وبعد ذلك بكثير أخذت ترد إرساليات التبشير البروتستانتية إنكليزية وألمانية وكذلك إرساليات التبشير الفرنسوية.

ولم تهتم جمعية الكنيسة البروتسانية بالتبشير في إفريقية الغربية إلا منذ سنة 1804 حيث تعاونت إرسالياتها وانكفأت على الكنغو، وهذه الجمعية تقاتل الآن بمؤازرة الأسقف " صموئيل كروتز " الزنجي سلطة الإسلام المتدفق في النيجر الغربية. 

وفي سنة 1819 اتفقت هذه الجمعية مع الأقباط، وألفت في مصر إرسالية عهدت إليها نشر الإنجيل في إفريقية الشرقية وقررت إرسال مبشرين إلى الحبشة ولكنها فشلت على أثر المنافسة بين اليسوعيين والبروتستانت. ثم أخذ المبشرون السويديون والإنكليز يرتادون غربي إفريقية وتبعهم مبشرو المدرسة الجامعة فهبطوا مدينة " ممباسة " ثم عززت ألمانيا إرسالياتها عقب اتساع مستعمراتها لكن سرعان ما ظهرت المنازعات بين الكاثوليك والبروتستانت وكان أهم ذلك في " أوغندة " بين مبشريها الوطنيين والرهبان البيض الذين ألف إرساليتهم الكاردينال"لافيجرى" .

وتوافد المبشرون على إفريقية الوسطى عقب بعثة " لفنجستون " و " ستانلي " سنة 1878 فاقتسموا مناطقها مع اختلاف جنسياتهم بين ألماني واسكوتلندي و إنكليزي و مورافي وهؤلاء انتشرت إرسالياتهم بدون انقطاع من شرقي إفريقية إلى أواسطها حتى الخرطوم والحبشة وبلاد الجلا. وجاءت هذه الإرساليات بنتائج حسنة. 

أما بلاد المغرب فلها مبشرون خاصون بها ترسلهم "جمعية تبشير شمال أفريقيا" وهم منتشرون في المغرب والجزائر وتونس وسائر بلاد الغرب ومنهم المبشرون و الأطباء التابعون لهم. ولقد شاع أن ذوي الأمر في فرنسا وإيطاليا حانقون على رجال التبشير! إلا أن حاكم الجزائر طمأن بال الأسقف "هارتزل" في الأيام الأخيرة وصرح له بأنه ينظر إلى أعمال المبشرين ببعض الاستحسان. 

وقبل الانتهاء من الكلام على إفريقية لا نرى بداً من الإشارة إلى جزيرة مدغشقر التي يقوم فيها المبشرون البروتستانتت بخدمة مهنتهم بكل جد ونشاط.



آسيا الغربية

كان للمبشر " هنري مارتين " يد طولى في إرسال المبشرين إلى بلاد آسيا الغربية فبعد أن أقام في الهند مدة عرج على فارس والبلاد العثمانية وتوفي سنة 1812 وهو الذي ترجم التوراة إلى الهندية والفارسية والأرمنية، ومن بعده أخذت إرساليات التبشير تشد الرحال إلى الأناضول وفلسطين واتخذت لها مراكز في أزمير والقسطنطينية وبيت المقدس، وتصدرت للتبشير في صفوف النسطوريين على حدود فارس والسلطنة العثمانية وفي صفوف اليعقوبيين فيما بين النهرين. وفي مقدمة هذه الجمعيات "لجنة التبشير الأمريكية" إلا أن "جمعيات اليهود الإنكليزية" سبقتها إلى بعض البلاد العثمانية مثل أزمير والآستانة وسلانيك، فافتتحت فيها مدارس دينية ومعابد. ومنذ سنة 1849 أخذت ترد إرساليات أخرى على هذه البلاد فقسمتها إلى مناطق وأصابت لجنة التبشير الأمريكية منطقة قبائل النصيرية في سوريا فأخذت على عاتقها تنصير هذه القبائل، وذهب قسم من هذه الجمعية إلى بلغاريا لينفذ خطته هناك.

ولما حدثت الحوادث سنة 1860 في سوريا توجهت الأنظار إلى جبل لبنان، وبعد عشر سنوات انتشرت لجنة التبشير الأمريكية في البلاد العثمانية عدا سوريا. 

وعلى أثر تأسيس الكنيسة البروتستانتتية في الآستانة سنة 1846 صارت الآستانة مركزاً عاماً آمناً لأعمال المبشرين.

أما موقف الحكومات الإسلامية أمام إرساليات التبشير فكان يختلف باختلاف البلاد، فالقبائل المستقلة في بلاد العرب عداوات لدودات للمبشرين، وبلاد الفرس سائد عليها نفوذ روسيا، والسلطنة الإسلامية في القطر المصري اسمية فقط. وكانت الحكومة العثمانية تبدي ضروب الاستبداد نحو المبشرين على اختلاف مذاهبهم بسبب الدور السياسي الكبير الذي يمثله نفوذ المبشرين على مسرح المسألة الشرقية. وكانت معاملة الحكومة العثمانية للمبشرين تتحسن بواسطة سفراء الولايات المتحدة.

ولقد شمر المبشرون عن ساعد الجد في ترجمة الكتاب المقدس " التوراة والإنجيل " إلى كل لغات الشرق بأسلوب سهل يتسنى فهمه لكل الطبقات.

وأكبر ما يثير قلق المستر " بلس " مؤلف هذا الكتاب هو الدور الذي ستقوم به الدولة العثمانية في الحوادث المقبلة....! ما دامت أنظار القبائل السنوسية الشديدة البأس متجهة نحو السلطنة العثمانية التي يحكمها أمير المؤمنين وفيها بيضة الإسلام. ومثل السنوسيين الأمم الأخرى البعيدة عن الآستانة مثل بخاري وخيوة والهند والبلاد الإسلامية الشاسعة. 

الهند

انتشرت إرساليات التبشير في الهند عقب إرسالية جمعية لندن التبشيرية التي قام بها "كاري" ثم تبعتها الإرساليات الأمريكية والاسكوتلندية والهولندية والنرويجية وغيرها وكلها تؤدي وظيفتها بنشاط وتقوم بأعمالها بكل دقة.

وكان كل هؤلاء في بادئ الأمر قد وقعوا في الحيرة لأنهم لم يعلموا بمن يبدأون في التبشير، وهل يسهل بث النصرانية في البرهمي أو المسلم المتنور أو الهندي العامي؟

ثم اهتدوا إلى التقاط الأطفال الذين يعضهم ناب الفاقة و الفقر فيحسنون إليهم ويستجلبونهم نحوهم، ومؤتمر التبشير الذي عقد في شيكاغو قرر أن ينظر في وسائل تعميم التبشير في الهند ونشر النصرانية وتفسير تعاليمها بين كل طبقات الأهالي.

جزائر الملايو

يوجد في شبه جزيرة الملايو وجزائرها المجتمعة عقائد ونزعات سقيمة ، لأن أهالي هذه البلاد اعتنقوا الإسلام في القرن الثالث عشر ومزجوا به ما علق بهم من عقائدهم القديمة ثم اقتبسوا شيئاً من مذهب الكاثوليك عقب ظهور البرتغاليين ومن مذهب البروتستانت بعد استيلاء الهولنديين على هذه البلاد، والهولنديون أبدوا قسوة وعدم تسامح في القرون الوسطى لنشر عقيدتهم، وفي هذه الأيام ذهبت إرساليات كثيرة إلى الملايو لتبشيرهم بالنصرانية.

الصين

في هذه المملكة مسلمون كثيرون بعددهم قليلون بالنسبة إلى مجموع سكان البلاد. وتاريخ ذهاب إرساليات التبشير إلى الصين يرجع إلى سنة 1813 ولما افتتحت الثغور الصينية بعد ذلك انتشر فيها المبشرون والأطباء والممرضون التابعون لهم انتشاراً هائلاً واتسع نطاق أعمالهم وجاء بثمرات كثيرة.

***************************************



مؤتمر القاهرة سنة 1906



كان القسيس "زويمر" رئيس إرسالية التبشير العربية في البحرين أول من أبتكر فكرة عقد مؤتمر عام يجمع إرساليات التبشير البروتستانتية للتفكير في مسألة نشر الإنجيل بين المسلمين. وفي سنة 1906 أذاع اقتراحه وأبان الكيفية التي يكون بها، فوضعت هذه الفكرة على بساط البحث في "ميسور" من ولاية "أكرا" في الهند. لأن هذه الولاية ذات أهمية كبرى من حيث المسائل الإسلامية لوجود مدرسة "عليكرة" هناك. ثم عرض الاقتراح على مؤتمر التبشير الذي ينعقد في مدينة "مدراس" الهندية كل عشر سنوات فأجاز عقده وأن اتخاذ الهند قاعدة لتأسيس النظامات الخاصة بتبشير المسلمين بالنصرانية أمر طبيعي وبديهي ، لأن مسلمي الهند أخذوا على عاتقهم منذ القرن التاسع عشر تأييد السياسة الإنكليزية للتغلب على الهندوس.

ولما تقرر عقد المؤتمر شرع القسيس " زويمر" وزميل له يعدان المعدات لتأليف لجنة مؤقتة تضع برنامج مذكرات المؤتمر وتدعو المبشرين المنتشرين في كل البلاد للاشتراك به.

وفي يوم 4 أبريل من سنة 1906 افتتح المؤتمر في القاهرة في منزل عرابي باشا في باب اللوق وبلغ عدد مندوبي إرساليات التبشير 62 بين رجال ونساء. وكان عدد مندوبي إرساليات التبشير الأمريكية التي في الهند وسوريا والبلاد العثمانية وفارس ومصر واحداً وعشرين، ومندوبو إرساليات التبشير الإنكليزية خمسة واشتركت في المؤتمر الإرساليات الاسكتلندية والإنكليزية المنفردة والألمانية والهولندية والسويدية وإرسالية التبشير الدنمركية الموجودة في بلاد العرب.

أنتخب القسيس " زويمر " رئيساً للمؤتمر، وعين معه نائب رئيس وكتبة، وحددت أيام الجلسات.

وهذا برنامج المسائل التي تفاوضوا فيها:

ملخص إحصائي عن عدد المسلمين في العالم ، الإسلام في إفريقية ، الإسلام في السلطنة العثمانية، الإسلام في الهند، الإسلام في فارس، الإسلام في الملايو، الإسلام في الصين، النشرات التي ينبغي إذاعتها بين المسلمين المتنورين والمسلمين العوام ، التنصر، الارتداد ، وسائل إسعاف المتنصرين المضطهدين ، شؤون نسائية إسلامية ، موضوعات تتعلق بتربية المبشرين والعلاقات بينهم وكيفية التعليم في الإسلام.

وهذه الموضوعات جمعت على حدة في كتاب كبير اسمه " وسائل التبشير بالنصرانية بين المسلمين" 

ثم صنف القسيس زويمر كتاباً جمع فيه بعض تقارير عن التبشير وسماه "العالم الإسلامي اليوم".

جمع هذا الكتاب ونشره القسيس "فلمينغ" الأمريكي وكتب عليه هذه الكلمة "نشرة خاصة" بمعنى أنه طبع ليتنقل في أيدي فئة خاصة من رجال التبشير لا ليطلع عليه كل الناس وقد ضمنه المباحث التي دارت في مؤتمر القاهرة واختتمه بنداءين استنهض بأحدهما همم رجال النصرانية ليجمعوا قواهم ويتضافروا بأعمال مشتركة وعمومية فيستولوا على أهم الأماكن الإسلامية. والنداء الثاني خاص بأعمال نسائية.

أما الفصل الأول من الكتاب فيبحث في الطريقة التي ينبغي إنتهاجها في التبشير وعما إذا كان مفيداً ضم إرساليات تبشير المسلمين إلى إرساليات تبشير الوثنيين، وفضل بقاءهما منفصلتين.

وفيه البحث أيضاً عما إذا كان الإله الذي يعبده المسلمون هو إله النصارى واليهود أم لا؟ وقد صرح " الدكتور لبسيوس" في مؤتمر القاهرة بأن إله الجميع واحد ، إلا أن القسيس زويمر خالفه في هذا الرأي فقال: إن المسلمين مهما يكونوا موحدين فإن تعريفهم لإلههم يختلف عن تعريف المسيحيين ، لأن إله المسلمين ليس له قداسة ومحبة.

وفي الفصل الثاني والثالث بحث في الصعوبات التي تحول دون تبشير المسلمين العوام وذكر الوسائل التي يمكن استجلابهم بها وتحبيب المبشرين إليهم، وأهم هذه الوسائل العزف بالموسيقى الذي يميل إليه الشرقيون كثيراً، وعرض مناظر الفانوس السحري عليهم وتأسيس الإرساليات الطبية بينهم، وأن يتعلم المبشرون لهجاتها العامية واصطلاحاتها نظرياً وعملياً، وأن يدرسوا القرآن ليقفوا على ما يحتويه، وأن يخاطبوا العوام المسلمين على قدر عقولهم ومستوى علمهم، ويجب أن تلقى الخطب عليهم بأصوات رخيمة وبفصاحة، وأن يخطب المبشر وهو جالس ليكون تأثيره أشد على السامعين، وأن لا يتخلل خطاباته كلمات أجنبية عنهم، وأن يبذل عنايته في اختيار الموضوعات، وأن يكون واقفاً على آيات القرآن والإنجيل عارفاً بمحل المناقشة، وأن يستعين قبل كل شيء بالروح القدس والحكمة الإلهية، ومن الضروري أن يكون خبيراً بالنفس الشرقية وأن يستعمل التشبيه والتمثيل أكثر مما يستعمل القواعد المنطقية التي لا يعرفها الشرقيون.

وختم المؤلف هذين الفصلين بأن أكثر المسلمين الذين تنصروا إنما هم من العامة والأميين.

وفي الفصل الرابع يأتي ذكر الصعوبات التي تقف في سبيل تبشير المسلمين المتنورين وهذه الصعوبات التي جعلت المؤتمر يترك المذاكرة في بادئ الأمر بمسألة التنصير، فخاض في البحث عن الوسائل التي يكون لها تأثير - ولو قليلاً - على الناشئة الإسلامية لتدرك الأمور الاجتماعية والخلقية والأدبية.

وهنا قال سكرتير المؤتمر: إن الخطة العدائية التي انتهجها الشبان المسلمون المتعلمون اضطرت المبشرين في القطر المصري إلى محاولة إعادة ثقة الشبان المسلمين بهم ، فصار هؤلاء المبشرون يلقون محاضرات في موضوعات اجتماعية وخلقية وتاريخية لا يستطردون فيها إلى مباحث الدين، رغبة في جلب قلوب المسلمين إليهم. وأنشأوا بعد ذلك في القاهرة مجلة أسبوعية اسمها (الشرق والغرب) افتتحوا فيها باباً غير ديني يبحثون فيه بالشئون الاجتماعية والتاريخية، وأسسوا أيضاً مكتبة لبيع الكتب بأثمان قليلة والغرض من ذلك استجلاب الزبائن ومحادثتهم في أثناء البيع.

وقد مضى على ذلك ثلاث سنوات تسنى فيها للمبشرين أن يتوصلوا إلى النتائج الآتية: 
الأولى : أنهم عرفوا أحوال البلاد و أفكار المسلمين وشعورهم وعواطفهم وميولهم. 

الثانية : أنهم حصلوا على ثقة عدد من المسلمين بهم. 

الثالثة : أن المبشرين تحققوا أنهم بتظاهرهم في وداد المسلمين وميلهم إلى ما تطمح إليه نفوسهم من الاستقلال السياسي والاجتماعي والنشأة القومية يمكنهم أن يدخلوا إلي قلوبهم. 

وبناء على هذا ساعد المبشرون الشبان المسلمين في تأسيس جمعية الغرض منها إيجاد صلة وتقرب بين الطبقة المتعلمة والطبقات المتعددة التي تتألف الأمة منها، وإنماء روح الاتفاق هذه هي الطريقة التي استحسنها المبشرون بعد أن علموا أن الأمور التي يتذرعون بها وتكون صبغتها دينية لا ريب أن عاقبتها الفشل . ولكن المبشرين الذين هم على شيء من الجرأة يقولون إنهم سمعوا بعض المسلمين يشكون من الزواج في الإسلام وتعدد الزوجات وتربية المرأة وعدم وجود التسامح الديني. 

وكل ما خاض فيه المؤتمر من هذه المباحث يختص بالمجهودات التي يبذلها المبشرون لتبشير الشبيبة الإسلامية التي تعلمت على الطريقة الأوروبية وفي مدارس الحكومة وما يلقونه من الصعوبات والفشل في تنصيرها. 

أما الذين تعلموا على الطريقة الشرقية في الأزهر وما يماثله فلم يتكلم أعضاء المؤتمر عنهم إلا ببعض اقتراحات ونظريات: من ذلك أن احد أعضاء المؤتمر أفاض في وصفه ما للجامع القديم من النفوذ وإقبال الألوف عليه من الشبان المسلمين في كل أقطار العالم. وتساءل عن سر نفوذ هذا الجامع منذ ألف سنة إلى الآن ثم قال: إن السنيين من المسلمين رسخ في أذهانهم أن تعليم العربية في الجامع الأزهر متقن ومتين أكثر منه في غيره والمتخرجون في الأزهر معروفون بسعة الإطلاع على علوم الدين، وباب التعليم مفتوح في الأزهر لكل مشايخ الدنيا خصوصا وأن أ وقاف الأزهر الكثيرة تساعد على التعليم فيه مجانا لأن في استطاعته أن ينفق على 250 أستاذا. ثم تساءل عما إذا كان الأزهر يتهدد كنيسة المسيح بالخطر، وعرض اقتراحا يريد به إنشاء مدرسة جامعة نصرانية تقوم الكنيسة بنفقاتها وتكون مشتركة بين كل الكنائس المسيحية في الدنيا على اختلاف مذاهبها لتتمكن من مزاحمة الأزهر بسهولة وتتكفل هذه المدرسة الجامعة بإتقان تعليم اللغة العربية. 

ثم قال: إن في الإمكان مباشرة هذا العمل في دائرة صغيرة وهي أن تخص أولا بتعليم المسلمين المتنصرين وتربيتهم تربية إسلامية ليتمكن هؤلاء من القيام بخدمات جليلة في تنصير المسلمين الآخرين.

وختم كلامه قائلا: ربما كانت العزة الإلهية قد دعتنا إلى اختيار مصر مركز عمل لنا لنسرع بإنشاء هذا المعهد المسيحي لتنصير الممالك الإسلامية. 

وفي الباب الخامس ذكر المؤلف ما دار في المؤتمر عن النشرات التي ينبغي للمبشرين إذاعتها لتنصير المسلمين. وقد ظهر للمؤتمر أن التوراة مترجمة إلى معظم اللغات الإسلامية وأكثر لهجاتها، أما أدبيات التبشير ومؤلفاته فمترجمة إلى اللغات الإسلامية المهمة فقط. 

وقد اقترح أحد المندوبين أن تراجع المؤلفات التي قدم عليها العهد لإصلاحها واستخدامها في تبشير المسلمين المتنورين الذين اقتبسوا علومهم في المعاهد العصرية مثل مدرسة أكسفورد وبرلين، إلى وجوب تخفيف اللهجة في المجادلات الدينية. 

وقال مندوب آخر: إن الحاجة شديدة إلى نشر كتب في الموضوعات الدينية الآتية: 

أسماء وألقاب المسيح التي في الأناجيل، طبيعة الخطيئة الأصلية، ضرورة الغفران، الجنة وكيفية الحصول عليها، الروح القدس وأعماله، عقيدة سر التجسد، الإنسان فرد اجتماعي وخالقه ليس كذلك، وأن الإله الاجتماعي يشمل الثالوث، الشيطان وكيفية الخلاص منه. 

خاض المؤتمر بعد ذلك في مسألة إرساليات التبشير الطبية، فقام المستر " هاربر" وأبان وجوب الإكثار من الإرساليات الطبية لأن رجالها يحتكون دائما بالجمهور ويكون لهم تأثير على المسلمين أكثر مما للمبشرين الآخرين. وهنا ذكر المستر هاربر حكاية طفلة مسلمة عني المبشرون بتمريضها في مستشفى مصر القديمة ثم ألحقت بمدرسة البنات البروتستانتتية في باب اللوق، وكانت نهاية أمرها أن عرفت كيف تعتقد بالمسيح بالمعنى المعروف عند النصارى. وذكر أيضا عن رجل مسلم كان يحضر محاضرات المبشرين لإثارة الجلبة والضوضاء، واتفق أنه مرض فدخل مستشفى المبشرين وبعد أن لبث فيه مدة شفي وخرج منه فصار يحضر المحاضرات في هذه المرة ولكن بخشوع زائد وبعد ذلك بقليل تعمد وأصبح نصرانيا على مذهب البروتستانت. 

ثم قام الدكتور أراهاس طبيب إرسالية التبشير في طرابلس الشام فقال: إنه قد مر عليه اثنان وثلاثون عاما وهو في مهنته فلم يفشل إلا مرتين فقط وذلك عقب منع الحكومة العثمانية أو أحد الشيوخ لاثنين من زبائنه من الحضور إليه. وأورد إحصائية لزبائنه فقال: إن 68 في المائة منهم مسلمون ونصف هؤلاء من النساء. وفي أول سنة مجيئه إلى حيث يبشر بلغ عدد زبائنه 175 وفي آخر سنة كان عددهم 2500، وختم كلامه قائلا: يجب على طبيب إرساليات التبشير أن لا ينسى ولا في لحظة واحدة أنه مبشر قبل كل شيء ثم هو طبيب بعد ذلك. 

وقام بعده الدكتور تمباني وذكر الصعوبات التي يلقاها الطبيب في التوفيق بين مهنتي التبشير والطب كما حدث معه هو، إلا أن ما بذله من المجهودات قد أعانه على النجاح حتى تمكن من تأسيس مستشفى التبشير من طريق الاكتتابات. وكان أول مكتتب لهذا المستشفى التبشيري رجلاً مسلماً.

وخطب الأستاذ سمبسون بعد ذلك - في بيان فضل الإرساليات الطبية - ومما قاله:

إن المرضى والذين ينازعهم الموت بوجه خاص لابد لهم من مراجعة الطبيب وحسن أن يكون هذا الطبيب (المبشر) في جانب المريض عندما يكون في حالة الاحتضار التي لابد أن يبلغها كل واحد من أفراد البشر.

ثم خطبت المس " أنا وستون " فتكلمت عن إرسالية التبشير الطبية في مدينة طنطا قائلة إن 30 في المائة من الذين يعالجون في مستشفى هذه الإرسالية هم من الفلاحين المسلمين وأكثرهم من النساء. أما طريقة التبشير في هذه المستشفى فهي أن يذكر الإنجيل للمرضى بأسلوب بسيط لا يدعو إلى التطرف في المناقشة إذ المستشفى يجمع بين جدرانه نساء ورجالاً.

الأعمال النسائية في التبشير

كان لهذا الموضوع اهتمام كبير من أعضاء المؤتمر لأنه خاص بنصف مسلمي العالم فقالت المس "ولسون " إن النساء المبشرات يستعن في الهند بالمدارس وبالعيادات الطبية وزيارة قرى الفلاحين لينشرن النصرانية بين طبقات الناس.

وخطبت المس " هلداى " في حث المبشرين على الرفق بالمرأة المسلمة.

وتناوبت السيدات المبشرات الخطابة في أخبار نجاحهن في المناطق التي انتدبن للتبشير فيها، فقالت إحداهن إن المسلمات الفارسيات يظهرن ميلاً شديداً للعلم بالرغم من جهلهن باتساع نطاقه وهن يعتقدن أن الذي يعرف جغرافية البلاد نابغة، ولقصة الابن المسرف التي في الإنجيل وللمزمار الحادي والخمسين تأثير شديد على النفس المسلمة.

وقالت مبشرة أخرى إن مدرسة البنات البروتستانتتية التي في الخرطوم فيها من 80 إلى 90 تلميذة مسلمة ولأهلهن الحرية في السماح لهن بقراءة العهد الجديد (الإنجيل وذيوله) أو في منعهن من ذلك إلا أن المدرسة في هذه السنة لم يرد عليها طلب استثناء واحدة من التلميذات من قراءة الإنجيل.

وانتقل المؤتمر بعد ذلك إلى موضوع تربية النساء اللاتي يتطوعن للتبشير.

المتنصرون والمرتدون

تساءل القس "جون فان ايس" عن الأركان التي يشترط توافرها في الشخص المتنصر أو النصراني الشرقي الذي يدخل في المذهب البروتستانتي . وبعد أن بحث في ذلك قال: إن المحبة التي يعرفها نصارى الشرق تشوبها نزعة الاعتقاد بالقضاء والقدر، وعقيدة الشرقيين عموماً ضرب من الخرافات وإن تكن مبادئ الإيمان موجودة لديهم جميعاً.

ثم تساءل عما إذا كان المسلم المتنصر أهل لنشر النصرانية وأجاب على ذلك بأن هذا الأمر هو محك إخلاصه لأن نشر الدعوة أمر تقتضيه روح الإسلام وبهذا كان الإسلام دين دعوة وتبشير وكم بالحري لو انتفعنا بهذه الميزة وأدخلناها في النصرانية.

وتناقش المؤتمر بعد ذلك بشأن المتنصرين المضطهدين ووسائل استخدام المخلصين منهم وإدخال الأطفال الذين اعتنقوا المذهب البروتستانتي في المدارس العادية والصناعية. 



شروط التعميد

بسط القسيس " جصب " القول في هذا البحث وسأل عن الشروط التي يجب أن تتوفر في المسلم المتنصر ليكون أهلاً للتع