أسلمة المعرفة المبادئ العامة وخطة العمل

أسلمة المعرفة المبادئ العامة وخطة العمل

أسلمة المعرفة
المبادئ العامة وخطة العمل

تأليف
د. إسماعيل راجي الفاروقي
الأستاذ بجامعة تمبل ، بنسلفانيا ، الولايات المتحدة الأمريكية

ترجمة
عبد الوارث سعيد
جامعة الكويت

دار البحوث العلمية بالكويت
1983 

تمهيد

يسعد أمناء "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" أن يقدموا للعلماء المسلمين في أنحاء العالم هذه الهدية العزيزة . إنها دراسة حول " أسلمة المعرفة"، ويعتقدون أنها أنسب هدية يمكن أن تقدم في هذا العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري ... إنها ثمرة بحثين حول الموضوع أعدهما رئيس هيئة الأمناء ومدير المعهد بالإضافة إلى ما تزود به عن طريق أكثر من خمسة عشر من علماء الإسلام العالميين ممن شاركوا في حلقة البحث التي عقدت في "إسلام أباد" و "المعهد العالمي للفكر الإسلامي"، في مدينة "إسلام أباد" من شهر ربيع الأول 1405 هـ يناير 1982م. 
إن الأهمية الكبيرة لهذه الدراسة، التي تلي هذا التمهيد ، تنبع من حقيقة مفادها أن تقدير المرء لواقعه واستفادته من ماضيه وقيامه بالتخطيط ليوجه مسار التغيير نحو الأهداف المرجوة إنما هي الأسس المطلقة لضمان البقاء والازدهار. وإن الحكم الإلهي: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ......)(الرعد: من الآية12) لهو السنة المطلقة للتاريخ. 
إن هذه الدراسة لَتُعلن بقوة أن "الأمة" تعانى من انحراف خطير يتهددها، وتحاول أن تقدم للأمة علاجاً أكيداً يعيد إليها العافية ، كما تستحثها إلى الأمام نحو الدور المقدر لها ، أن تحمل مسؤولية قيادة العالم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: الآية143) .
وهذه الاعتبارات تعطى لهذه الدراسة الحق في أن تنال من المفكر المسلم أقصى ما يستطيع من الاهتمام الجاد، وتثير فيه إمكاناته الروحية فيبحث عن الغاية العظمى ويسهم في تحقيقها في المستقبل. 
لقد شهد النصف الأخير من القرن الرابع عشر موجة هائلة من الوعي الإسلامي عمت العالم كله ، فضلاً عن عديد من الخطوات المهمة اتخذتها أجزاء من هذه الأمة على طريق التحرر الذاتي. ورغم هذه الخطوات إلى الأمام، فإن هذا القرن نفسه قد شهد انتكاسة شديدة تمثلت في اندفاع عام عند المسلمين لتقليد الحضارات الأخرى. هذا الاندفاع لم يحقق هدفه في أي مجال كان ، بل إنه نجح في تجريد الطبقة العليا من المجتمع الإسلامي من إسلامها وأن يوهن من عزيمة الباقين ... لقد غشيت الرؤية الإسلامية برؤية أجنبية وفدت إلينا مع الغزاة المستعمرين. ولما رحل المستعمر بقيت هذه الرؤية الأجنبية، بل أصبحت أشد خطراً. وبدا المسلمون لعدة أجيال غير قادرين على التخلص منها... إنك لتراها واضحة في كل مكان: في المؤسسات المستوردة ، وفي بانتشار اللغتين الإنجليزية والفرنسية بينهم، وفي تصميم مكاتبهم وبيوتهم ومدنهم ، وفي برامجهم الترفيهية ...في المناهج الاقتصادية والسياسية التي يتبعونها، وفيما يعتنقون من أفكار عن الحقيقة والطبيعة والإنسان والمجتمع.... وكان العامل الأول في انتشار هذا التصور الأجنبي هو النظام التعليمي، فقد شعبوه إلى نظامين: نعتوا أحدهما "بالحديث" والآخر "بالإسلامي"... هذا التشعيب يعتبر صورة مصغرة لانحطاط المسلمين. وما لم يتم علاج هذا الأمر والتخلص منه ، فسيظل يدمر جهد كل مسلم يبذله لإعادة بناء "الأمة" ولتمكينها من أداء "الأمانة" التي ائتمنها الله تعالى عليها.
لقد حاول كثيرون من كبار الشخصيات الإسلامية في الماضي أن يصلحوا نظام التعليم الإسلامي وذلك بأن يضيفوا إلى مناهجه الدراسية الموضوعات الأساسية في النظام الأجنبي. ويعتبر السيد أحمد خان والشيخ محمد عبده أبطال هذه المحاولة، أما جمال عبد الناصر فقد وصل إلى ذروة هذه الاستراتيجية عام 1961 حين حول الأزهر – أعظم حصن للتعليم الإسلامي – إلى جامعة "حديثة"... لقد استقرت جهود هؤلاء، وجهود الملايين من أمثالهم ، على فرضية أن تلك الموضوعات التي تدعى "بالحديثة" لا ضرر فيها وأنها يمكن أن تمد المسلمين بالقوة، وقليلاً ما أدركوا أن هذه الدراسات الأجنبية من "إنسانيات" و "علوم اجتماعية"، وحتى "العلوم الطبيعية" كذلك، ما هي إلا واجهات لنظرة متكاملة للحقيقة وللحياة وللعالم وللتاريخ – نظرة غريبة بنفس الدرجة عن نظرة الإسلام. وقليلا ما عرفوا عن العلاقة الدقيقة والضرورية التي تربط مناهج البحث في تلك الدراسات كما تربط نظرياتها في الحقيقة والمعرفة بنظام القيم لهذا العالم الأجنبي ، ومن هنا كان عقم إصلاحاتهم... فمن ناحية ظلت الدراسات الإسلامية الآسنة على حالها لم تمس ؛ ومن ناحية أخرى لم يؤد العلم الجديد الذي أضيف إلى إنتاج أي مهارة متميزة كتلك التي ينتجها في موطنه الأصلي... الذي حدث هو العكس ، إذ جعل المسلمين عالة تتبع البحث الأجنبي والقيادة الأجنبية ، لقد نجح – تحت تأثير مزاعمه الطنانة بالموضوعية العلمية – أن يقنعهم بأن فيه الحق الذي يعلو-بل يناهض- مقررات الإسلام التي وسمها أنصار التقدم المتحمسون بالمحافظة والتأخر.
لقد آن الأوان لكي يتبرأ علماء الإسلام من أمثال هذه الطرائق السطحية والضارة في الإصلاح التعليمي. إن إصلاح التعليم المرجو منهم هو صبغ المعرفة الحديثة ذاتها بالصبغة الإسلامية. وهي مهمة تشبه في خصائصها – وإن كانت أرحب مدى – ما اضطلع به أسلافنا ثقافياً وحضارياً. فالدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية والطبيعية يجب – كمقررات دراسية – أن تُتصور وتُبنى من جديد وأن تقام على أسس إسلامية جديدة وتناط بها أغراض جديدة تتفق مع الإسلام. يجب أن يصاغ كل علم صياغة جديدة بحيث يجسد مبادئ الإسلام في منهجيته و استراتيجية، وفي معطياته ومشاكله، وفي أغراضه وطموحاته. يجب أن يعاد تشكيل كل علم كي يصبح ملائما للإسلام عبر محور أساسي هو "التوحيد" بأبعاده الثلاثة: 
البعد الأول: هو وحدة المعرفة التي يجب بمقتضاها أن تسعى كل العلوم إلى طلب معرفة الحقيقة بمنهج عقلي موضوعي نقدي، وهذا سوف يريحنا وإلى الأبد من الزعم الذي يقسم العلم إلى "عقلي" و "نقلى" بما يوحى بأن الثاني غير عقلي؛ أو يقسمه إلى دراسات "علمية ومطلقة" وأخرى "اعتقادية نسبية".
والبعد الثاني: هو وحدة الحياة والتي بمقتضاها يجب أن تأخذ كل العلوم في اعتبارها الطبيعة "الهادفة" للخلق وتعمل على خدمتها، وهذا سيقضى وإلى الأبد على الزعم القائل بأن بعض العلوم عظيم القيمة وبعضها محايد أو عديم القيمة.
أما البعد الثالث: فهو وحدة التاريخ التي يجب بمقتضاها أن تعترف كل العلوم بأن النشاط الإنساني كله ذو طابع اجتماعي أو مرتبط "بالأمة" ، وأن تعمل على خدمة أهداف الأمة في التاريخ. وهذا سوف يقضى على تقسيم العلوم إلى "فردية" و "اجتماعية" مبرزا – وعلى الفور – جميع العلوم [على أنها] إنسانية الطابع وذات ارتباط بالأمة. 
ومما لا ريب فيه أن الإسلام ملائم لكل جوانب التفكير والحياة والوجود. وهذا التلاؤم يجب أن يظهر بوضوح تام في كل علم. فالكتب الدراسية المستخدمة في كل علم يجب أن تُكتب من جديد بحيث تضع هذا في موقعه كجزء تكاملي من الرؤية الإسلامية للحقيقة، بل ويجب أن يتلقى المدرسون المسلمون تدريباً على كيفية استخدام الكتب الدراسية الجديدة ، وأن يعاد تشكيل جامعات المسلمين وكلياتهم ومدارسهم بحيث تستأنف قيادتها الرائدة في تاريخ العالم... لقد كانت "المدرسة الإسلامية" التي استمدت حياتها من رؤية الإسلام هذه هي التي أوجدت لنفسها أوقافا هي التي أعطتها شخصيتها القانونية المشتركة واستقلالها؛ مما جعلها نموذجا تحتذيه جامعات باريس وأكسفورد وكولون في القرن العشرين... كذلك فإن هذه الرؤية الإسلامية هي التي جعلت "المدرسة الإسلامية" رائدة في كل مجال من مجالات البحث الإنساني، وكانت هي القالب الذي تصاغ فيه الشخصية الإنسانية وخصائصها ، وهي المخطط لكل إنجازات الأمة في الثقافة والحضارة. وكانت هذه "المدرسة" تراعى برنامج الإسلام الذي يبدأ يومه بصلاة الفجر وينتهي بصلاة العشاء. وكان نشاطها التعليمي عملية معايشة يتعايش فيها الطالب والمعلم بصفة دائمة ويعملون معا وليس أمامها إلا هدف واحد – هو تطبيق سنن الله في الخليقة... كان منهجها التربوي يقوم على شخصية الشيخ المفعمة بالتقوى والتلميذ الذي عليه أن يحاكى شيخه. وكان افتتاحها بإلباس الشيخ تلميذه "العمامة" (وهي أصل القبعة والرداء اللذين يلبسان في حفل التخرج في الوقت الحاضر) وذلك رمزا إلى الثقة الكاملة التي يجب أن يتكلم بها التلميذ بإذن شيخه ونيابة عنه. كانت مستويات التعليم في أعلى درجة وذلك نظرا للخطورة البالغة لوضع كرامة الشيخ وسمعته في يدي الطالب. كان الوصول إلى هذا "الإحسان" [أو الإتقان] ممكنا لأنه قام على أساس الرؤية الإسلامية، ولأن العزيمة والتفاني في طلب الحقيقة كانا ممحضين لله وحده.
ومع هذا، وعلى الرغم من كل هذا، فقد وجد المسلمون أنفسهم في مطلع القرن الخامس عشر الهجري محاصرين بطوفان من الطلاب، وليس في أيديهم مخططات لنظام تعليمي ينمو نمواً طبيعياً، [يواجَهون] بانفجار في المعرفة على كل الجبهات مع انعدام المخططات التي تمكن الأساتذة والمؤسسات التعليمية من مواجهته بنجاح... والنتيجة أن العالم الإسلامي استمر يرسل إلى الغرب أعدادا متزايدة من شبابه ليتعلموا ويتدربوا ، ولكنه ظل مع ذلك يعانى فقده لهم نتيجة "هجرة الأدمغة". وزيادة في المأساة ، كان مطلع القرن الخامس عشر الهجري صدمة للضمير الإسلامي إذ تزامنت معه الحرب الدائرة بين العراق والجمهورية الإسلامية في إيران ، وغزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان وغزو إسرائيل للبنان وضم مرتفعات الجولان ومخططات ضم فلسطين كاملة وحروب الصحراء الغربية المستمرة واستمرار احتلال وضم كشمير وبنجلادش ، واضطهاد الشعب المسلم في الهند (وهم يشكلون أكبر أقلية عرفها التاريخ). والأمَرُّ من هذا، أن العاملين لإنهاض المسلمين أصبحوا على مستوى العالم هدفاً للاتهام والاضطهاد والتشويه. وأصبح مستقبل الإسلام نفسه في خطر. 
كل هذه الظواهر لفَّت "الأمة" في ظلمة وكآبة ... وليس ثمة موقف عصيب إلى درجة المأساة أكثر من أن يصبح مفكرو "الأمة" وكل همهم أن يركزوا فكرهم في تشخيص دائها والبحث عن علاج له... إن صرخة الجهاد "الله أكبر" لم تكن يوما مطلباً ملحاً في التاريخ الإسلامي على المستوى الفكري أكثر منها اليوم.
عسى أن ينهض مفكرو "الأمة" ويرتفعوا إلى مستوى التحدي ! أسأل الله تعالى أن يحفهم دائما بهدايته ، وأن يوفقهم إلى أن يحققوا في هذا المجال ما يرضى الله تعالى ورسوله (r) وجميع المؤمنين.
ذو الحجة 1402 هـ/ 1982 م
إسماعيل راجي الفاروقي 
مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي
وينيكوت ، بنسلفانيا
الولايات المتحدة الأمريكية 


الفصل الأول
المشكلة

أولا : اعتلال الأمة
تقف الأمة الإسلامية اليوم في مؤخرة ركب الأمم ... ولم يشهد هذا القرن أمة تعرضت لمثل ما تعرضت له الأمة الإسلامية من هزيمة وإذلال. لقد هزم المسلمين وقتلوا وسلبت منهم أوطانهم وثرواتهم، بل وأرواحهم وآمالهم... لقد خُدعوا فاستُعمروا واستُغلوا؛ وفُتنوا في عقيدتهم وأُدخلوا بالقوة أو بالرشوة في أديان أخرى... وقام أعداؤهم من الخارج مستعينين بعملائهم في الداخل فحولوهم إلى علمانيين أو عبيد للغرب وجردوهم من إسلامهم. كل هذا حدث في كل دولة وكل ركن في العالم الإسلامي ، ورغم أن المسلمين كانوا ضحايا الظلم والعدوان في كل ناحية ، فقد ساهمت كل الأمم في تشويه صورتهم وتلطيخ سمعتهم ، إن صفحتهم هي أشد الصفحات سوادا في عالم اليوم... وقد دأبت وسائل الإعلام في أيامنا هذه على تصوير "المسلم" على أنه عدواني ، مخرب ، مخادع ، مستغل ، قاس ، متوحش ، متمرد ، إرهابي ، همجي ، متعصب ، متحجر الفكر ، متخلف ، سقيم الرأي... وقد أصبح لذلك محل الكراهية والاحتقار من غير المسلمين جميعهم سواء أكانوا متقدمين أم متخلفين، رأسماليين أم ماركسيين ، شرقيين أم غربيين، متحضرين أم همجيين... ولا يعرفون عن العالم الإسلامي إلا ما فيه من صراعات وانقسامات واضطرابات وتناقضات وحروب تهدد السلام العالمي، وإلا ما فيه من ثراء فاحش وفقر مدقع ، ومجاعات وأمراض وبائية ، إن "العالم الإسلامي" في نظر الناس اليوم هو "الرجل المريض" [المنتظَر موته] ، ويريد الأعداء أن يجعلوا العالم يقتنع بأن "دين الإسلام" يقف وراء كل هذه الشرور... والأمر الذي يجعل هذه الهزيمة وهذا الإذلال والتشويه أمورا لا تطاق أبداً أن تعداد هذه الأمة يفوق المليار ، وأنها تملك أوسع رقعة من الأرض المتصلة وأغناها ، وأن إمكانياتها من الموارد البشرية والمادية و الاستراتيجية أعظم من غيرها ، وأن عقيدتها "الإسلام" دين متكامل وصالح ، وإيجابي وواقعي.

ثانيا: الأعراض الرئيسية للمرض

1- على الصعيد السياسي:

"الأمة" منقسمة على نفسها... لقد نجحت القوى الاستعمارية في تفتيت "الأمة" إلى نحو خمسين وحدة سياسية أو أكثر ، وجعلت كلا منها عدوا للأخرى. وقد أقيمت الحدود بين الدول الإسلامية بحيث تخلق خلافات دائمة بين كل دولة والدول المجاورة لها. 
والأعداء في مؤامراتهم يستغلون باستمرار مناطق الخلاف هذه لإثارة أسباب التنافر والعداوة... أما داخلياً، فإن كل دولة إسلامية منقسمة بدورها على نفسها ، لا وئام بين عناصر شعبها ، وتجد من بينها مجموعة معينة وضع السادة المستعمرون السلطات في يدها... وليس هناك دولة أعطيت الوقت أو السلام أو الموارد اللازمة لتحقيق التكامل بين أبناء شعبها وتكوّن منهم وحدة واحدة ؛ ولم يسمح لأي دولتين أن تتحدا لتكونا معا وحدة أكبر... ولكي يصبح الوضع أكثر سوءاً استقدم العدو عناصر أجنبية إلى العالم الإسلامي كي يضمن وجود صراع مستمر بينهم وبين أهل البلد ؛ أو عمل على إدخال بعض أهل البلد في المسيحية الغربية التي تجعلهم بالضرورة أجانب بالنسبة إلى مواطنيهم المسلمين ؛ أو دس بين غير المسلمين من المواطنين فكرة الشعور بشخصية متميزة مما يضعهم في مواجهة مع المسلمين . وأخيرا، خلق العدو كيانات "أجنبية" داخل جسم الأمة وجعل منها دولاً معادية بهدف توجيه طاقات المسلمين بعيداً عن البناء واستنزافها في حروب لا طائل وراءها ، أو لتكون قاعدة يستخدمها الاستعمار إذا ما قرر أن يحتل تلك البلاد ثانية من أجل مصالح القوى الاستعمارية الاقتصادية و الاستراتيجية... وليس من بين الدول الإسلامية دولة تشعر بالأمن الداخلي ولا بالأمن الخارجي . إن كل حكومات الدول الإسلامية تنفق الجزء الأكبر من مواردها وطاقاتها لتأمين قوتها في الداخل وسلامتها من الخارج ، ولكن دون فائدة. 
قامت الإدارة الاستعمارية بتحطيم كافة المؤسسات السياسية في كل بلد على امتداد العالم الإسلامي كله باستثناء عدد قليل من الأقطار وجد العدو أن حكامها على استعداد للتعاون معه... وحين حان أوان انسحاب الإدارات الاستعمارية عهدت بالسلطة إلى "الصفوة" من أهل البلد ممن كان قد سبق تعبيدهم وصبغهم بالصبغة الغربية. أما القوة الحقيقية فقد بقيت في أيدي العسكريين وحدهم ، فعَدَوْا على السلطة واغتصبوها في أول فرصة سنحت ... إن المسلمين – في أغلب الحالات – يحكمهم العسكر وذلك لخلو مجتمعاتهم من التشكيلات السياسية القادرة على إدارة جهاز الحكم ، أو على تحريك الجماهير ودفعها إلى المقاومة أو على قيادتها للقيام بعمل سياسي بناء ، أو حتى على العمل في تعاون وذلك أضعف الإيمان. 


2- على الصعيد الاقتصادي:

الأمة غير نامية بل ومتخلفة... أغلبيتها الساحقة في كل مكان أميون. إنتاجها من السلع والخدمات أقل كثيرا من الاحتياجات التي تُشبع دائما عن طريق البضائع الجاهزة المستوردة من القوى الاستعمارية. وحتى في مجال المتطلبات الأساسية للحياة من أطعمة وملابس وطاقة وآلات لا نجد دولة إسلامية تستطيع الاعتماد على نفسها... ومن الممكن أن تواجه أي من هذه الدول مجاعة إذا ما قررت القوى الاستعمارية لأي سبب أن توقف هذه التجارة الظالمة معها... في كل مكان تعمل المصالح الاستعمارية على خلق رغبات ومطالب استهلاكية لمنتجات الاستعماريين، بينما احتياجات المسلمين إلى آلات إنتاجية لا يلقى إليها أحد بالاً... وفي ميدان المنافسة مع المنتجات المحلية للمسلمين ينجح الاستعماريون في طردها من السوق، وإذا ساعد الاستعماريون في تنمية صناعة ما في بلاد المسلمين فإنهم يجعلونها معتمدة على ما لديهم من مواد خام أو مصنعة لا تتوفر إلا عندهم، فبذلك تصبح خاضعة لهم تعمل تحت رحمتهم ، وتخدم أغراضهم الاستعمارية ، وفي معظم الأحوال لا يخطط للصناعات الجديدة في بلاد المسلمين لتواجه الاحتياجات الأساسية ، وإنما لتواجه المتطلبات الكمالية التي خلقتها وسائل الدعاية الاستعمارية المكثفة... إن الاكتفاء الذاتي للمسلمين في مجال الزراعة هو العدو الأول للاستعماريين، إذ هو الأساس الذي لا غنى عنه ليتمكنوا من مقاومة أي مخطط استعماري في الوقت الراهن وفي المستقبل. في كل مكان تجد الفلاحين المسلمين يُقتلعون من قراهم نتيجة الوعود الزائفة بحياة أفضل في المدن ، وإغراء الوظائف المؤقتة في مشاريع لا أمان لها كالبناء وصناعات السلع الاستهلاكية ، ونتيجة لاستغلال ملاك الأراضي وجامعي الضرائب فإنهم يهاجرون إلى العواصم ليعيشوا في مدن من الأكواخ تعتمد أساساً على الأطعمة المستوردة ، وهم مستعدون للسير وراء أي مهرج يقودهم.
إن كنوز البترول التي شاء الله أن يمنحها لبعض الأقطار الإسلامية لم تصبح النعمة التي كانت ترتجى... هذه الثروة التي وُجدت غالباً في البلاد قليلة السكان قد دفعت الحكومات إلى انتهاج سياسة عنصرية ، وإلى تبديد الثروات في تطوير بلادهم تطويراً "تجميلياً" زائفا. والحق أن هذه الثروات طائلة إلى حد أن مثل هذه الاهتمامات لا يمكن أن تستنفذها، ومن هنا فإنها توجه نحو استثمار "سهل ومضمون" في أسواق المال غير الإسلامية ، وهناك تساعد أعداء الإسلام ليصبحوا أكثر قوة، وذلك لأن عدم الاستقرار السياسي في كل بلاد العالم الإسلامي يجعل من أي تخطيط أو استثمار طويل الأمد مخاطرة كبيرة لا يقدم عليها أي مستثمر حريص... وعلى هذا، فإن مناطق العالم الإسلامي التي تتمتع بإمكانات تؤهل لتطور مهم في الزراعة أو في الصناعة تبقى محرومة من رؤوس الأموال الممولة .. إن رؤوس الأموال التي يمكن أن تطور هذه الإمكانيات إلى رخاء حقيقي لصالح "الأمة" كلها إنما توجه إلى مواقع أخرى. 

3- على الصعيد الثقافي والديني: 
إن انحطاط المسلمين الذي دام قرونا قد أدى إلى انتشار الأمية والجهل والخرافة بينهم ... وهذه الشرور قد أدت بالمسلم العادي إلى أن "ينعم" بعقيدة قائمة على التقليد الأعمى ، وأن يتجه نحو الحَرْفية والشكلية القانونية، أو أن يعبِّد روحه لشيخه... وهذا بدوره قد ربى فيه استعدادا غير قليل للانهزامية... فحين فرض العالم الحديث نفسه عليه أصيب بالذعر نتيجة لضعفه العسكري والسياسي والاقتصادي ، فسارع لذلك إلى ضرب من الإصلاح الجزئي ظنا منه أن ذلك سيعينه سريعاً على أن يستعيد الأساس الذي ضاع منه ، فاتجه – دون وعى منه – إلى تقليد الغرب ، أغراه بذلك نموذج التجربة الغربية الناجح وناصِحُوه من الغربيين أو المستغربين... وفي المناطق الخاضعة للإدارة الاستعمارية فُرضت عملية "التغريب" فرضا ، وعُززت بكل ما تحت أيدي الحكام من وسائل متاحة... وسواء أكان ذلك عن حسن نية أو عن سوء نية ، فقد كان الزعماء المسلمون من دعاة التغريب لا يعلمون أن تلك البرامج ستؤدى – عاجلا أو آجلا – إلى تعريض الدين الإسلامي وثقافة شعوبهم للخطر... إن الروابط بين مظاهر الإنتاج والقوة الغربيين من ناحية ، والأفكار الغربية عن الله والإنسان ، وعن الحياة والطبيعة والعالم، وعن الزمان والتاريخ من ناحية أخرى،-- هذه الروابط كانت من الدقة بحيث لم يلحظوها أو يعقلوها في غمرة تعجلهم... والنتيجة أن قام نظام تعليمي عَلماني يلقن القيم والمناهج الغربية، وسرعان ما بدأ هذا النظام يصب في نهر المجتمع أجيالا من الخرجين الجاهلين بتراثهم الإسلامي، وقد صاحب هذا الجهل شك من حراس التراث ، أعنى "العلماء"، الذين كانوا حسني النية على الرغم من التراثية الجامدة أو الحَرفية أو الشكلية القانونية أو الصوفية التي نزعوا إليها... وهكذا بدأت الفجوة تتسع بين صفوف "الأمة" لتقسيمها ما بين دعاة للعَلمانية والتغريب في جانب ومناهضين للعلمانية من جانب آخر... وقد عنيت القوى الاستعمارية بالوضع بحيث أصبحت الفئة الأولى هي صانعة القرار في المتجمع. 
وأصبح كل شيء إسلامي هدفاً للهجوم ... سواء على أيدي الاستعماريين مباشرة أو على أيدي أدواتهم من أهل البلاد ... ولم ينج من هذا الهجوم حتى النص القرآني ، أو صدق الرسول (r) وسنته ، أو كمال "الشريعة" ، أو أمجاد إنجازات المسلمين في ميادين الثقافة والحضارة... كان الهدف هو غرس الشك في ثقة المسلم بنفسه وبأمته وبعقيدته وسلفه الصالح وذلك لتدمير وعيه الإسلامي وإفساد شخصيته الإسلامية وجعله نتيجة لذلك أكثر خضوعاً تعوزه القدرة الروحية اللازمة للمقاومة. وعوضاً عن ذلك ملأ الاستعماريون وأدواتهم حياة المسلم اليومية بما يصبغه بصبغة الثقافة الغربية... فالصحف والكتب والمجلات والإذاعة المسموعة والسينما والمسرح والمواد المسجلة ولوحات الإعلانات واللافتات الضوئية ، كلها تمطره يومياً بوابل من تلك المؤامرات. لقد صارت الحكومات الإسلامية تفتخر بما لديها من شوارع واسعة في عواصمها مرصعة بالعمارات ذات الشقق أو المكاتب الفخمة على الطراز الغربي ، وذلك دون أن يشعروا بالخجل من الفساد السياسي والانحطاط الخلقي الذي ملأ مدنهم وقراهم... صارت العلية من المستغربين يترددون على الصالات العامة ليشاهدوا ويستمعوا إلى فيلم أو "أوبرا" أو حفلة موسيقية أو "دراما"، على حين يقرأ عنها أبناؤهم وبناتهم في المدارس والكليات العَلمانية أو التبشيرية دون أن يدركوا تناقض كل هذا مع كل ما يفكرون فيه أو يؤدونه... فأولئك الذين أكملوا "تغريب" أنفسهم من بينهم وقفوا في غرابة ضد بيئتهم وأرضيتهم الإسلامية ... أما الثقافة الإسلامية المتكاملة ووحدة النهج الإسلامي للحياة فقد تحطمت في ذواتهم، وفي فكرهم وفي عملهم، وفي بيوتهم وعائلاتهم... وبكل وقاحة أُدخلت المؤسسات والتقاليد الاجتماعية الغربية... فبدلا من أن تسمو النساء المسلمات بأنفسهم إلى ذرى الفضيلة والفعالية في المجتمع كما أراد لهن الإسلام ، إذ بهن يتهالكن على مظاهر الانحطاط الغربي : العرى المتزايد والتبرج ، والاستهلاك الاقتصادي بهدف التحلل الفردي، أو لانكباب الأناني على الملذات ، والتهرب من الواجبات التي تفرضها مطالب الحياة المتزايدة.
لا أثر في عواصمنا لفن المعمار ولا لفن تخطيط المدن الإسلاميين... مراكزنا الحضرية التي تتورم بسرعة تكرر كل الأخطاء والنقائص التي وقعت فيها المدينة الغربية وهي تتعرض لتجربة الثورة الصناعية قبل قرنين من الزمان، وكأننا أصبحنا عاجزين تماما عن الاستفادة من أخطاء الآخرين... بيوتنا وما فيها من أثاث وتنسيق إنما هي مزيج غريب من كل الأساليب مما يعكس اضطراب أفكارنا عن هويتنا وخصائصنا. 
وباختصار، لقد نزل المسلم بنفسه إلى درك الهمجية وذلك على الرغم من ادعائه غير ذلك إلى حد صبغ نفسه بصبغة "الغرب"... لقد أصبحت حياته خليطاً من أساليب شتى و مبتوتة الصلة بماضيه... لقد جعل من نفسه شيئاً لا هو بالإسلامي ولا هو بالغربي ، جعلها "مسخاً ثقافياً" للعصور الحديثة.

ثالثا : مكمن الداء


ليس هناك أدنى ريب في أن مركز الداء ومنبعه في هذه الأمة إنما هو النظام التعليمي السائد... إنه التربة الخصبة لتربية العلل... في المدارس والكليات تولد وتؤيَّد عملية تغريب النفس عن الإسلام: عن تراثه وأسلوبه... إن النظام التعليمي هو المعمل الذي فيه يُعجن ويشكَّل الشباب المسلم ، وهناك يصاغ وعيهم في قالب هو صورة ممسوخة للغرب ، وتفصم الرابطة بين المسلم وماضيه وتوضع في وضع حرج رغبته الطبيعية في التطلع لمعرفة تراث أسلافه... ونتيجة للشكوك التي بثها هذا النظام في أعماق وعيه تصاب بالتبلد رغبته في أن يقف مع أسلافه على أرض مشتركة لينطلق منها نحو بعث لإسلام جديد وملائم للعصر. 



1- الوضع الراهن للتعليم في العالم الإسلامي:
التعليم في العالم الإسلامي في أسوأ حالاته على الرغم من التوسع الهائل الذي تم حتى الآن، أما فيما يتعلق "بأسلمة التعليم" فلم تكن المدارس والكليات والجامعات – التقليدية منها والعلمانية – بأشد جرأة مما هي عليه اليوم في الدعوة إلى مبادئها اللاإسلامية ، كما أن الأغلبية الساحقة من الشباب المسلم لم تكن في يوم من الأيام أكثر افتنانا بهذه المبادئ منها اليوم... ولما كان النظام التعليمي العَلماني قد نشأ في ظل الإدارات الاستعمارية فقد احتل مساحة هائلة من المساحة وأُبعد عنها النظام الإسلامي... ظل التعليم الإسلامي في جملته قائماً على الجهد الذاتي الفردي محروماً من الاستفادة من الاعتمادات المالية الحكومية... وحيثما توفرت تلك الاعتمادات فإن متطلبات "العلمنة" كانت تفرض نفسها باسم الحداثة والتقدم... كان هذا يؤدى إلى تقسيم المنهج الدراسي إلى شعبتين متقابلتين بل متعارضتين – تدعى إحداهما "إسلامية" والأخرى "حديثة" (كذا!) ، معتبرين الأزهر هو النموذج التقليدي... فأما الشعبة الإسلامية فتبقى على حالها دون تغيير بدعوى المحافظة ومن أجل مصالح مكتسبة ، من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن العلمانية تخطط لإبعاد التعليم الإسلامي عن الاحتكاك بالواقع وبالتطورات الحديثة وذلك حتى لا يشكل خريجوه عناصر منافسة لخريجي المعاهد العًلمانية... كل هذا خطط له دهاقنة الاستعمار بعد درس وتمحيص... أما الدَّفعة الكبرى للنظام العَلماني فقد جاءت بعد الاستقلال إذ تبنته الدولة طريقاً لها ومنهجاً وصبت فيه الاعتمادات المالية الحكومية ، بل وأغرقت من هذا المنهج العَلماني بدعوى القومية والوطنية... إن سيادة قوى "التغريب" و "العلمانية" وما ينتج عن ذلك من إبعاد المدرسين والطلاب عن الإسلام ، كل ذلك لا يزال يعمل عمله في الكليات والجامعات بكل قوة ولم يقم أحد بأي عمل يكبح جماح هذا الانحراف... والحق أن الوضع الآن أسوأ مما كان عليه أيام الاستعمار، زمانئذ كانت هناك روح المقاومة والبحث عن التحرير وعن حل إسلامي تفعل فعلها في كل النفوس تقريباً. أما الآن فقد سادت روح الاستخفاف والبلادة وانعدمت الثقة في كل القيادات ، ومردُّ ذلك في الجملة إلى الوعود الزائفة المتكررة التي لا يعقبها سوى الخيبة ، وإلى النماذج السيئة التي يراها الناس في أولئك القادة المفلسين أخلاقياً... وليس هناك حكومة إسلامية ولا إدارة جامعية ولا مؤسسة خاصة تفعل أي شيء لعلاج أخلاقيات الشباب المنهارة ، أو لإنقاذهم من هذا التعليم الذي لا يزال يعمل على سلخهم من إسلامهم . إن برامج الإنشاءات الضخمة في الدول الغنية ، وما يستتبع ذلك من توسع في أعداد الطلاب والكليات والإمكانيات المساعدة ، إنما توجه كلها لخدمة قضية العلمانية... وما أقل ما يوجه من تلك الاعتمادات لإحداث "تطور" حقيقي ، أعنى تحسين الصبغة الإسلامية للتعليم وتوجيه الطلاب والهيئة التدريسية توجيهاً إسلامياً... في كل مكان نجد أن نموذج التعليم الغربي هو ما يتسابق إليه الجميع في سرعة مذهلة.

2- انعدام الرؤية:
إن المحصلة النهائية لذلك ليست النموذج الغربي المنشود ، وإنما صورة مهزوزة منه ، مهما تكن الدعاوى الكثيرة التي تزعم غير ذلك. إن النموذج الغربي في التربية – شأنه شأن النموذج الإسلامي- يقوم أساسا على رؤية محددة ولكنها مباينة للرؤية الإسلامية ..ويقوم على عزيمة تنفث فيه الحياة ليحقق هذه الرؤية... إن المباني والمكاتب والمكتبات والمختبرات وفصول الدراسة والقاعات الكبيرة التي تعج بالطلاب ليست سوى أدوات مادية لا قيمة لها بدون رؤية واضحة، ومن طبيعة الرؤية أنها لا يمكن أن تقلَّد أو تستنسخ ، وإن كانت مظاهرها الخارجية والعَرَضية فقط يمكن أن تقتبس . ولهذا فإن المسلمين في خلال هذين القرنين من التربية العَلمانية لم ينتجوا شيئاً يوازى في الإبداع أو الامتياز ما في الغرب – لم ينتجوا مدرسة أو كلية أو جامعة أو جيلاً من العلماء المتميزين... والنتيجة الحتمية لغياب هذه الرؤية هي هذه المشكلة المستعصية على الحل – مشكلة انخفاض المستوى في مؤسسات العالم الإسلامي... إن البحث الأصيل عن المعرفة لا وجود له دون "روح" تبعث فيه الحياة ، وهذه الروح هي بالذات ما لا يمكن اقتباسه ، وذلك لأنها تتولد من الرؤية الواضحة للنفس وللعالم وللحقيقة ، أي من الدين... وهذا هو ما يفتقده نظام التعليم في العالم الإسلامي اليوم... إن القيادات التعليمية عندنا ليس لديها بالطبيعة رؤية الرجل الغربي ، كما أنها باختيارها – أي بسبب الجهل والخمول والسلبية – لا تمتلك الرؤية الإسلامية... إنها قيادات مادية المنزع ، ليس لديها ثقافة أو قضية تشغلها... لقد أصبحت القومية هي مصدر الإلهام للجامعات الغربية طيلة القرنين الماضيين ، وذلك لأن "الرومانسية" قد استبدلت "الأمة" بإله المسيحية الذي مات [بزعمهم] ، وجعلت من الأمة "الحقيقة المطلقة" والأصيلة... أما بالنسبة للمسلم فليس هناك "حقيقة مطلقة" سوى الله ؛ ومن ثم فإن الولاء المطلق للأمة أو للدولة عنده ليس أمرا مستحيلا فقط وإنما هو كفر... ومهما تكن الرابطة التي تربط المسلم بتراثه وماضيه ، فمن غير الممكن بالنسبة له أن يكون "قوميا" بنفس المعنى الذي لدى الأوروبي الذي تخلص من مسيحيته. 
أنظر إلى المثل الأعلى للمدرس في الجامعات في العالم الإسلامي، أعنى الأستاذ الحاصل على الدكتوراه من إحدى الجامعات الغربية... لقد تعلم في الغرب وتخرج بمعدل متوسط أو دون المتوسط، ولما لم تكن دوافعه دينية ، بمعنى أنه لم يطلب العلم ابتغاء مرضاة الله جل وعلا ، بل لأهداف مادية أنانية (أو قومية على أحسن تقدير) فإنه لم يحرص على نيل كل المتاح من العلوم في الغرب ، ولم يستطع أن يتفوق على أساتذته الغربيين في مجالاتهم ، كما لم يتمثل ما تعلمه ولا حاول بالطبع إعادة تقييمه في إطار الرؤية الإسلامية للمعرفة وللحقيقة على غرار ما فعل أسلافه الذين تعلموا علوم الأمم القديمة من يونان وفرس وهنود وصبغوها بالصبغة الإسلامية... وبدلاً من أن يفعل ذلك ، اكتفي هذا الأستاذ بالنجاح ونيل الدرجة ثم العودة إلى بلده ليحصل على منصب يهيئ له الثروة والرفعة... ويكفيه ما قرأه من كتب أثناء الدراسة إذ لم يعد لديه الآن وقت أو طاقة أو دافع ليمد من آفاق معرفته إلى أبعد مما حصل... بل إن ظروف عمله ومعيشته لتزيد في إلهائه عن التطلع إلى مثل تلك الآفاق العليا... أما طَلَبته فمن الطبيعي أن يتخرجوا على يديه وهم أقل منه كفاءة وأضعف دفاعاً... حتى المثَل الأعلى الغربي صار في نظرهم أبعد وأضأل... وهكذا تهبط المستويات ويصبح التعليم الغربي في بلاد المسلمين صورة مهزوزة لحقيقته في الغرب.
إن المواد والمناهج التي تدرس في البلاد الإسلامية حالياً إنما هي نسخ مما عند الغربيين لكن مع افتقارها للرؤية التي تمدها بالحياة في بيئتها الأصلية... وهي بهذه الصورة تصبح من عوامل الضعف ، هذه المواد والمناهج التي لا روح فيها تظل – بشكل لا شعوري – تؤثر في الطالب تأثيراً سيئاً معادياً للإسلام من حيث إنها تقف كبدائل للمواد والمناهج الإسلامية وكعوامل للتقدم والتحديث. إنها تجعل من الخريج في جامعات العالم الإسلامي نموذجاً للشباب المغرور الذي يظن نفسه العلم مع أنه في الحقيقة لا يعرف إلا قليلاً. 
وهكذا تصبح إمكانية تفوق الطالب المسلم في علوم الغرب أمراً بعيد المنال، ذلك لأن مثل هذا التفوق يتطلب من الدارس تصوراً شاملاً لمجموع المعارف في مجال الدراسة، كما يتطلب منه أن يكون مدفوعاً بفكرة تحركه ليستوعب هذه المعارف ثم يتجاوزها ويزيد عليها. هذا الاستيعاب الشامل والتفوق ثمرة للدوافع والفكرة المحركة، والأخيران لا يتولدان إلا من الالتزام بقضية. أما بدون قضية فلا يمكن أن ينهض الدارس ليستوعب مجموع المعارف في مجال دراسته. وإذا لم يستوعبها فكيف يمكنه أن يتجاوزها ويتفوق عليها؟! وليس للمسلم من قضية يلتزم بها سوى الإسلام. وإذا لم توجد هذه القضية فمحال أن يصل المدرسون الذين تعلموا في الغرب إلى استيعاب شامل للمعرفة... وإذا فقدوا – كمدرسين في الجامعات – هذه المتطلبات الضرورية للتفوق فهل يمكن أن يمنحوها لطلابهم؟ إنهم عادة يقنعون باستنساخ ما حصلوه من معارف جزئية أو بترجمتها ، وهذا يؤدى بهم وبطلابهم إلى ضعف في مستوى الأداء على أحسن الاحتمالات.
إن المأساة الكبرى للتعليم في العالم الإسلامي تتمثل يقيناً في أن الأساتذة في جامعات العالم الإسلامي لا تسيطر عليهم الرؤية الإسلامية ولا تحفزهم قضية الإسلام... إن الطلاب في كل بلاد العالم الإسلامي يدخلون الجامعات وكل ما تسلحوا به – فيما يتصل بالرؤية الإسلامية – معلومات ضئيلة عن الإسلام تلقوها في بيوتهم أو في المدرسة الابتدائية أو الثانوية... وواضح أن هذا لا يكوِّن "رؤية" ولا يوجِد "قضية"... ومن هنا، فإن الطالب المستجد يدخل وهو كالصفحة البيضاء من حيث "المبادئ"... إنه قد يحمل بعض العواطف ، لكنه بالتأكيد خلو من "الأفكار والمبادئ" الواضحة... فهذه العواطف – إن وجدت – لن تلبث أن تنهار حين تواجَه بما يقدمه له "العلم" في مجال التخصص على أنه "مبادئ" و "حقائق" وأحكام "موضوعية" في حين أنه ليس لدى هذا الطالب شيء يدفع به عن نفسه من نحو تصور إسلامي واضح يمكنه من المواجهة على هذا المستوى "الفكري". إن هذا الطالب إذا تخرج ولم يتأصل لديه الإلحاد أو العلمانية أو الشيوعية فإن الإسلام سيكون في نظره قد انحسر إلى مجرد رباط عاطفي شخصي بينه وبين أسرته أو الناس من حوله... أما الإسلام النابض بالحياة الغنى بأفضل المبادئ التي تلائم وتحل كل مشكلة فإنه لا يدرى عنه شيئاً... وعلى مستوى "الفكرة والمبدأ" نجد الطالب في جامعات العالم الإسلامي يواجِهُ الأفكار والمبادئ الأجنبية التي تقدم إليه في الكتب أو في قاعات الدرس بوسائل دفاع لا تجدي فتيلاً ، إنه يكون أشبه بجندي يواجه بالسيف والرمح جندياً آخر مدججاً بالدبابة والمدفع ... وليس هناك مكان في العالم الإسلامي يدرّس فيه التصور الإسلامي لمجموع الطلاب كما يدرس التصور الغربي لطلاب المدارس الثانوية في الغرب، أعنى بنفس ذلك المستوى من التناسق والشمولية والجدية والالتزام الفائقين بالنسبة لجميع الطلاب... فليس هناك جامعة في العالم الإسلامي تجعل مثل هذا التصور الإسلامي جزءاً من البرنامج الدراسي الأساسي وتفرضه على جميع الطلاب.

الفصل الثاني
الواجب المطلوب

إن أعظم مهمة تواجه "الأمة" في القرن الخامس عشر الهجري هي حل مشكلة التعليم ، وليس هناك أمل في بعث حقيقي للأمة مالم يتم تجديد النظام التعليمي وإصلاح أخطائه ، والحق أن ما نحتاج إليه إنما هو إعادة تشكيل النظام من جديد . إن هذه الثنائية في التعليم [في العالم] الإسلامي وتقسيمه إلى نظامين "إسلامي" و "علماني" يجب أن تزال ويقضى عليها إلى الأبد . يجب أن يدمج النظامان ويتكاملا في نظام واحد وأن يشبّع بروح الإسلام ليصبح جزءا وظيفيا لا يتجزأ من برنامجه "الفكري" . يجب ألا يسمح لهذا النظام الجديد أن يكون تقليدا للغرب ولا أن يترك حرا يختط لنفسه أي طريق كان . كذلك يجب ألا يُتهاون معه بحيث يصبح أداة لخدمة الاحتياجات الاقتصادية أو العملية للطلاب من أجل معارف مهنية ، أو تقدم شخصي ، أو منفعة مادية . يجب أن تناط بالنظام التعليمي رسالة ، ولا يمكن لهذه الرسالة إلا أن تكون "نقل الرؤية الإسلامية" ، وتربية الإرادة لتحقيقها في الزمان والمكان,
إن القيام بمثل هذه المهمة لاشك أمر صعب ومكلف ، لكن "الأمة" في مجموعها تنفق على التعليم نسبة من مجمل ناتجها القومي وميزانيتها السنوية أقل بكثير مما تنفقه الأمم الأخرى في العالم اليوم، وحتى في الدول الغنية التي ترصد ميزانيات غنية للتعليم فإن معظم ما ينفق يكون على المباني والإداريات وليس على البحوث والأنشطة التعليمية بكل ما في الكلمة من معنى . إن على "الأمة" أن تنفق على التعليم أكثر بكثير مما تفعل اليوم، وذلك لتجتذب أفضل العقول ولتعينهم على أن يحافظوا على النعمة والمنزلة التي أنعم الله تعالى عليهم بها إذ جعلهم "أهل العلم" أو "طلابه". 

أولا : توحيد نظامي التعليم
ينبغي أن يوحد النظام التعليمي الإسلامي، المكون من المدارس الابتدائية والثانوية والكليات والجامعات مع النظام العلماني في المدارس العامة والجامعات. هذا التوحيد يجب أن يصطفي للنظام الجديد الموحد ما يتمتع به كل من النظامين من مزايا ، أعني: مصادر التمويل الحكومية والالتزام بالرؤية الإسلامية. كما يجب أن يكون هذا التوحيد فرصة للتخلص من نقائصهما وهي : عدم ملاءمة الكتب الدراسية القديمة ونقص كفاءة المدرسين في النظام التقليدي ، والتشبه بالغرب العلماني في مناهجه ومثله في النظام العلماني. 
هذه المزايا يمكن أن تتوفر للنظام الجديد إذا ما وافقت الحكومات المعنية على أن تخصص له الاعتمادات اللازمة دون أن تمارس عليه سيطرة خانقة . لابد من اتخاذ الخطوات اللازمة لجعل هذا النظام التعليمي الجديد مؤمّنا- إن لم يكن مستقلاً تماماً- من الناحية المالية، وذلك بالحث على إيجاد أوقاف ينفق على النظام أو بعض جوانبه من ريعها . وتلك هي "الأوقاف" التي تعرفها الشريعة وتحميها من أجل صالح الأمة . لقد كان لأوقاف كل "مدرسة" الفضل في ضمان استقلالها في الماضي وتمكين أساتذتها وطلابها من أن يطلبوا العلم ابتغاء مرضاة الله تعالى وحده، وهذا هو الشرط الضروري لوجود أي بحث ناجح عن الحقيقة. كما كانت مؤسسة الوقف هي التي أعطت "المدرسة" شخصيتها الثانوية المتميزة لأول مرة في التاريخ. تلك "المدارس" التي قامت على أساس "الوقف" هي التي كانت النموذج الذي أنشئت على مثاله الجامعات الأولى في الغرب حين أسست منذ ثمانية قرون.
ولكن نتيجة للانفجار المعرفي وللزيادة في عدد الطلاب أيضا فقد أصبحت النفقات اللازمة للتعليم في الوقت الحاضر كبيرة جدا بحيث لا تستطيع الأوقاف وحدها أن تواجهها. ومن هنا يكون من الضروري تخصيص نسبة سنوية من الميزانية العامة. ولكن على الدولة أن يكون لديها القدر الكافي من الحكمة لتتفاوض مع رجال التعليم حول مقدار المعونة الحكومية وأن تأتمنهم على استخدامها على أفضل وجه ممكن. وإذا كانت الجامعات الحكومية في الغرب تفعل هذا، فمن اللغو أن يزعم أحد أن المسلمين الملتزمين بتعاليم القرآن غير قادرين على فعل الشيء نفسه. إن الأمة التي لا تحترم المتعلمين من أبنائها وبناتها ولا تبذل من نفسها لتنقل إليهم تراث أسلافهم الروحي والثقافي ولا تمكّن شبابها من أن يضيفوا إلى تقاليدهم ويثروها، مثل هذه الأمة لا خير فيها ولا مستقبل لها. إنه الدليل على الطغيان ألا تأمن الدولة رجال التعليم فيها على القيام بوظائفهم دون رقابة بوليسية على المؤسسات التعليمية. كما أن من أدلة التدهور أن يضطر المتخصصون في التعليم إلى أن يتلقوا من الحكام السياسيين تعليمات عن ماذا يدرّسون وكيف يديرون شؤونهم الأكاديمية.

ثانيا : غرس الرؤية الإسلامية
ينتظر من هذا الاتحاد بين النظامين أن يؤدي إلى شيء أبعد من مجرد توفير الوسائل للنظام الإسلامي وتحقيق الاستقلالية للنظام العلماني... إن من المنتظر منه أن يزود "العلماني" بالمعرفة الإسلامية و "الإسلامي" بالمعرفة الحديثة. بالنسبة للتعليم الابتدائي والثانوي يجب وضع حد لجريمة ترك الشباب المسلم تحت أيدي المبشرين ورجال التعليم غير المسلمين. من حق كل شاب مسلم أن يتلقى تعليماً دينياً كاملاً عن الإسلام: نظامه الأخلاقي وتشريعاته وتاريخه وثقافته. إن الأمة كلها، أو أي جزء منها، وكذلك القادة فيها مسؤولون قانوناً ومعرضون للعقاب أمام الله إذا هم أخفقوا في توفير هذا التعليم الأساسي عن الإسلام لكل شاب مسلم. 
ومثل هذا تماماً يقال عن تعليم الكبار أيضاً. إن الطفل يجد من والديه أو من المسؤول عنه من الرعاية ما يقيه من ارتكاب منكر يكرهه الإسلام ومن التعدي على حدود الشريعة. أما البالغ فهو خلو من هذه المتابعة. إنه غرض مستهدف من قِبَل الدعايات غير الإسلامية داخل الجامعة وخارجها. ففي قاعات الدرس وفي القراءات المقررة تعرض عليه باستمرار أفكار ومبادئ أجنبية باسم العلم والتقدمية. هذه الأفكار وأنماط السلوك غير الإسلامية يزعمون له أنها حقائق علمية وأنها مبينة على حقائق موضوعية. هذا الطالب المسلم قدم إليه الإسلام أيام حداثته من خلال صوت السلطة الوالدية. وقتها لم يكن عقله قد نضج بالقدر الكافي لفهم الدعاوى "الموضوعية" أو تقديرها قدرها. لهذا كان ارتباطه بالموقف الإسلامي ناشئاً عن العاطفة وليس عن اقتناع مدعم بالدليل. وواضح أن التزامه هذا بالإسلام لا يمكن أن يثبت أمام انقضاض الحقائق التي تلبس ثوب "العلمية" و "الموضوعية" و "الحداثة". ولهذا السبب فإن طالب الجامعة المسلم لا يلبث أن يستسلم لهذه الدعاوى العلمانية ويؤمن بها نتيجة لغياب أي عرض لقضايا الإسلام يناهض تلك الدعاوى، مدعوماً بنفس القوة من "الموضوعية" و "العلمية" وبنفس المستوى من "الحداثة". وعلى هذا النحو تبدأ عملية سلخ طلاب الجامعات المسلمين عن دينهم. فبعد أربع سنوات من هذا التأثير التغريبي داخل الجامعة ، والتأثير الآخر الذي يساويه وربما يفوقه، والذي يأتي من وسائل الإعلام أو من قرنائه ومجتمعه، يتم القضاء على الوعي الإسلامي لدى المسلم. ولا عجب بعد ذلك أن يصبح من الناحية الثقافية ماديا متشككا ، لا هو بالمسلم ولا هو بالغربي رغم أنه في وطنه، ويكون على استعداد للسير وراء كل من يلبي له شهواته الآنيّة. 

(1) فرض تدريس الحضارة الإسلامية: 
إن الترياق الوحيد الممكن القادر على مقاومة عملية السلخ تلك على مستوى الجامعة هو فرض تدريس الحضارة الإسلامية على مدى السنوات الأربع . فعلى كل طالب في الجامعة – بصرف النظر عن التخصص – أن يدرس هذه المادة المقررة. إن كونه مواطناً أو فرداً من هذه الأمة يفرض عليه أن يحصل قدراً حياً ونامياً من المعرفة بتراث الأمة ومن التشبع بروحها وألفة بحضارتها. وكيف يمكن أن يكون مواطناً من لا يمتلك هذه المعرفة؟! وحتى لو كان الطالب ينتمي إلى إحدى الأقليات غير المسلمة ، فإن ذلك لا يجعله في حلّ من تحصيل هذا المتطلب الأساسي. فما دام قد ارتضى هو أو والده أن يكونوا مواطنين في دولة إسلامية، فلابد من توفر المعرفة الضرورية بالحضارة التي ينتمي إليها موطنه وبالروح والآمال التي تزكيه هو ومواطنيه. لا يترك شخص ما دون أن يؤقلم "ثقافيا" و "اجتماعيا" مع الإسلام والمجتمع الذي يعيش فيه. مثل هذه الدراسة هي التي يمكن أن تحصنه ضد الغزو الفكري والعقائدي، إذ تمكنه من أن يقارع الحجة بالحجة والبرهان الموضوعي بمثله. ومثل هذه الدراسة هي وحدها التي يمكن أن تعده ليسهم بأصالة في حياة الأمة الثقافية وتقدمها؛ إذ من خلال هذا المنهج وحده سوف يعرف جوهر الحضارة الإسلامية و "قناعة" الإسلام والطريق التي سوق تسلكها – أو تود تسلكها – الأمة؛ وسوف يعرف أيضا كيف يميز أمته – ونفسه بالتالي – عن الآخرين وكيف يعتز بهذا التميز ويحرص على صيانته وعلى جذب الآخرين للاقتراب منه. 
إن دراسة الحضارة هي الطريق الوحيدة لتنمية معنى الشخصية في الفرد. وكيف يكون على وعي بذاته من لا يعرف أسلافه؟! أع