التأصيل الإسلامي لعلم النفس

التأصيل الإسلامي لعلم النفس

 

التأصيل الإسلامي لعلم النفس

 

د. عبدالله بن ناصر الصبيح
المصدر: مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد 22، السنة 22، ص469-506
تاريخ الإضافة: 05/02/2007 ميلادي - 17/1/1428 هجري 
 

 

 

 

مراجعة نقدية:

 

مضى زمن طويل على نشأة الدعوة إلى علم نفس إسلامي، فمنذ أن نشر محمد عثمان نجاتي كتابه عن الإدراك الحسي عند ابن سينا عام 1949م ثم نشر بعده عبد الكريم العثمان كتابه عن ((الدراسات النفسية عند المسلمين)) عام 1962م والدعوة إلى تأصيل علم النفس إسلامياً يتردد صداها في أروقة البحث العلمي. وفي السنوات الأخيرة زادت العناية بهذا الموضوع وتطورت الدعوة إلى حركة واسعة صار لها أدبياتها الخاصة بها، وأصبح التأصيل مقرراً يدرسه طلاب علم النفس في أكثر من جامعة، ونشأت جمعيات وروابط علمية ومؤسسات تعنى بالتأصيل[1]، وأقيم كذلك عدد من المؤتمرات العلمية[2] لهذه الغاية. أما البحوث والكتب التي نشرت فهي كثيرة ولاسيما بعد عام 1400هـ، إذ حجم ما نشر بعد هذا العام يفوق جميع ما نشر من قبل بأضعاف مضاعفة. وحسب دراسة نشرها محمد عبد الله الغامدي (1400هـ) بلغ ما نشر من بحوث ودراسات حول التربية الإسلامية قبل عام 1400هـ 525 بحثاً، كان منها 70 عنواناً عن علم النفس. وفي قائمة ببلوجرافية منتقاة لمحيي الدين عطية (1416هـ) عما نشر من بحوث وأطروحات ومقالات باللغة العربية عن تأصيل العلوم السلوكية (علم النفس وعلم الإنسان وعلم الاجتماع) في ست سنوات تقريباً فيما بين عامي (1400 – 1406هـ) فقط بلغت 302 عنواناً، منها 64 عنواناً خاصاً بعلم النفس.

 

هذه الحركة الواسعة تحتاج بين الفينة والأخرى إلى دراسة نقدية تقوم مسارها وترسم معالم مستقبلها. والدراسات النقدية المنشورة عنها (لا زالت) نادرة، ورغم البحث الدؤوب لم يستطع الباحث الحصول على دراسة نقدية حديثة لحركة التأصيل الإسلامي. ومن هنا جاءت هذه الدراسة لتسد ثغرة في مجال نقد حركة التأصيل.

 

إن حركة التأصيل الإسلامي لعلم النفس تشعبت مع تشعب فروع علم النفس، ومن العسير التناول النقدي الشامل لجميع جوانبها في بحث موجز كهذا، ولهذا سوف يقتصر هذا البحث على ما قدم في حركة التأصيل في خمس قضايا هي:

 

1 - مشكلة المصطلح وتطوره.

 

2 - نظرية المعرفة.

 

3 - نقد علم النفس الغربي.

 

4 - مفهوم النظرية في التأصيل الإسلامي لعلم النفس.

 

5 - شروط التأصيل الإسلامي لعلم النفس.

 

وهذه القضايا الخمس بمثابة المقدمات الضرورية لعملية التأصيل في علم النفس، وسلامة التصور فيها شرط لسلامة التأصيل ذاته.

 


مشكلة المصطلح وتطوره:

 

من أولى المعضلات التي يعاني منها المشتغلون بالتأصيل مسألة الاسم ودلالته، فعبر أكثر من نصف قرن تعددت المصطلحات التي استعملها الباحثون في التعبير عن إعادة صياغة علم النفس صياغة إسلامية كما تعددت أيضاً تصوراتهم حول هذه المهمة، وقد أحصى كمال مرسي (غ م) أربعة مصطلحات شاع استعمالها بين الباحثين وهي:

 

1 - علم النفس الإسلامي.

 

2 - أسلمة علم النفس أو إسلامية علم النفس.

 

3 - التأصيل الإسلامي لعلم النفس.

 

4 - التوجيه الإسلامي لعلم النفس.

 

وقد أضاف الباحث مصطلحاً خامساً استعمله بعض الباحثين وأصبح اسماً مكرراً في بعض الجامعات، وهذا المصطلح هو:

 

5 - التفسير الإسلامي للسلوك.

 

وهذا عرض لكل مصطلح على حدة، وبيان المقصود به كما يعني عند من يستعمله ثم مناقشة لهذا المفهوم وبيان موقف الباحثين الآخرين منه.

 


1 – علم النفس الإسلامي:

 

ليس واضحاً لدينا من أول من استعمل هذا المصطلح، ولكن فيما بين يدي الباحث من مراجع يجد أن أول من استعمله هو محمد عثمان نجاتي في تقديمه لكتابه ((الإدراك الحسي عند ابن سينا)) المنشور عام 1948م، ولا يجد الباحث تعريفاً واضحاً عنده لهذا المصطلح، ويبدو أنه يقصد به التراث النفسي الموجود في الحضارة الإسلامية، وإن صح هذا فدلالته عنده لا تتجاوز الدلالة التاريخية. أما أول من نجده حاول تعريف هذا المصطلح فهو أحمد فؤاد الأهواني في تقديمه لكتاب عبدالكريم العثمان (1981م) ((الدراسات النفسية عند المسلمين))، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1962م، وحدده بأنه فرع علم النفس الذي يدرس السلوك الإسلامي، فهو إذن لا يعدو عنده عن أن يكون فرعاً من فروع علم النفس الديني. يقول الأهواني: "وما دمنا قد أفسحنا المجال لدراسة الظواهر الدينية نفسانياً، فلا غرابة أن نقول بوجود علم نفس إسلامي، كما نقول بوجود علم نفس بوذي أو نصراني، لاختلاف خصائص كل دين من هذه الأديان"(ص5).

 

وقد استعمل هذا المصطلح محمد رشاد خليل (1407م) في الدلالة على مفهوم مضاد تماماً للمفهوم الذي استعمله له الأهواني، فإذا كان علم النفس الإسلامي عند الأهواني أحد فروع علم النفس الديني فهو عند خليل ذو هوية مستقلة عن علم النفس الغربي، بل إن خليلاً يرفض التسليم بوجود علم نفس إذا لم يكن قائماً على أصول إسلامية، فعلم النفس القائم الآن ذو المنزع الغربي مرفوض عند محمد رشاد خليل ولا يستحق أن يطلق عليه هذا الاسم ((علم النفس)).

 


هذا عن المصطلح واستعمالاته، أما عن مواقف الباحثين منه فقد تباينت فمنهم من رفض المصطلح نفسه ومنهم من تحفظ على محتوى المصطلح أو دلالته. والمعنى الذي قصد إليه الأهواني مرفوض عند كثير من الباحثين ولاسيما بعد تطور مفهوم علم النفس الإسلامي، فلا أحد الآن من المعنيين بعلم النفس الإسلامي يقبل أن يكون ما يسعى إليه هو مجرد فرع لعلم النفس الديني هدفه دراسة السلوك الديني فقط، بل لا يرضى أن يكون فرعاً من فروع علم النفس الحديث لاختلاف المناهج والأهداف والتصورات المعرفية عند كل منهما. ويرى هؤلاء – كما سوف نرى في استعراض بقية المصطلحات – أن ما يسعون إليه يهدف إلى تصحيح علم النفس القائم فكيف يكون فرعاً له.

 

والبعض ينازع في صفة ((الإسلامي)) فلا يرى أن تضاف إلى علم النفس ويرى هؤلاء أن لا معنى لتخصيص هذا الفرع من فروع المعرفة بالإسلام، ويسألون في عجب قائلين: ترى هل معنى ذلك أن فروع المعرفة الأخرى التي لم توصف بالإسلامية كافرة؟

 


وإذا كان التحفظ على المعنى الذي ذكره الأهواني يحظى الآن بالقبول من المشتغلين بالتأصيل فإن التحفظ الذي ذكره من ينازع في وصف علم النفس بـ((الإسلامي)) لا زال موضع جدل بين الباحثين. ويرى الباحث أنه مع التسليم بوجاهة الاعتراض إلا أنه لا يرى مانعاً في الوقت الحاضر من استعمال مصطلح ((علم النفس الإسلامي)) علماً على ما تنتجه حركة التأصيل وعلى ما تسعى إليه. والمبرر لهذا ظرفي فقط، وإذا زال زال معه الحكم.حقيقة لا يوجد علم كافر وآخر مسلم، وإنما توجد نظريات صائبة وأخرى خاطئة، والأصل في العلم أن يكون صواباً متفقاً مع الشريعة، وإذا كان يعارضها فقد انتفت عنه صفة العلمية، وانحط إلى رتبة الجهل أو الضلال والهوى – أي إنه لم يعد علماً قط. ومن ثم فلا معنى لتمييز علم عن آخر بوسم الإسلامي؛ هذا هو الأصل، أو هو ما ينبغي أن يكون. ولكن الواقع بخلاف ذلك، حيث إننا نجد علماً بل علوماً مبنية على تصورات منحرفة معارضة للشريعة الإسلامي ومع ذلك لم يسلبها ذلك صفة العلمية عند الكثير بل إنها تدرس في بلاد المسلمين ودور علمهم بصيغها المنحرفة، وبما أن التصور البديل لا زال طفلاً يحبو والتصور الغالب هو التصور المنحرف فلابد من تمييز هذا الوليد الناشئ عن التصور السائد. وهذه التسمية ليس هدفها تمييز تصور عن آخر فحسب، وإنما لها وظيفة أخرى هي أنها إصبع اتهام مشهور على علم النفس الآخر، لا يزال يذكر بخطئه وينادي بالبديل عنه. لهذا لا يرى الباحث في الوقت الراهن مانعاً من استعمال مصطلح ((علم النفس الإسلامي)) عَلَمَاً على علم نفس جديد يبنى على أسس إسلامية.

 

 هذا فيما يتعلق بالمصطلح، أما فيما يتعلق بما يراه محمد رشاد خليل من رفض علم النفس الغربي جملة وتفصيلاً ونفي صفة العلمية عنه، فهذه مبالغة لا تثبت أمام النقد العلمي لأن علم النفس الغربي ليس خطأ صرفاً، وسوف يناقش الباحث المقبول والمردود من علم النفس فيما بعد ضمن الحديث عن نقد علم النفس الغربي.

 


2 – أسلمة علم النفس:

 

في منتصف السبعينات الميلادية ألقى الشيخ جعفر إدريس محاضرة باللغة الإنجليزية في مؤتمر العلماء الاجتماعيين المسلمين دعا فيها إلى أسلمة العلوم، فكان من أوائل من استعمل هذا المصطلح. أما الذي نشره فهو المعهد العالمي للفكر الإسلامي مع شيء من التحوير، حيث أصبح المصطلح أسلمة المعرفة بدلاً من العلوم. وقد عقد المعهد عدداً من المؤتمرات واللقاءات والندوات تحت هذا الشعار، من أهمها المؤتمر المعقود في كراتشي بباكستان تحت عنوان إسلامية المعرفة عام 1402هـ. وقد لقي هذا المصطلح جدلاً عريضاً واعتراضات متعددة منها:

 

1 – أسلمة لغة خطأ؛ فأسلم يأتي متعدياً بمعنى فوض، تقول: اسلم أمره إلى الله أي سلّمه (الفيروزآبادي، ص. 1448). وبمعنى خذله، تقول: أسلمه للعدو أي خذله (الفيروزآبادي، ص. 1448). ويأتي ((أسلم)) لازماً ويكون بمعنى انقاد وصار مسلماً (الفيروزآبادي، 1413، ص. 1448)؛ وبمعنى أسلف، جاء في مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي ((أسلم في الطعام: أسلف فيه)) (ص311).

 

وأسلمة علم النفس بالمعنى الذي يستعملونه له لا يتفق مع أي من الفعلين. ومن يستعمل مصطلح ((أسلمة)) يقصد بها صياغة علم النفس صياغة إسلامية، وهذا لا يصح لغة لأنه يستعمل الفعل المتعدي بمعنى الفعل اللازم، وهو خطأ كما سبق. ولعل سبب هذا الخطأ هو الترجمة، فالأسلمة هي ترجمة للكلمة الإنجليزية Islamization. وهي على كل حال كلمة محدثة في اللغة الإنجليزية ومشتقة من كلمة إسلام العربية.

 

2 – والبعض يخطئ المصطلح حتى من الناحية المعنوية، فمقداد يالجن (1407هـ) في ورقته التي قدمها إلى ندوة التأصيل وكذلك قسم التربية في كلية العلوم الاجتماعية (1407هـ) في ورقته التي قدمها إلى الندوة نفسها يرى أن العلوم لا توصف بالإسلام لأن الإسلام يقتضي إرادة واختياراً من المسلم، والعلوم جامدة لا إرادة لها ولا اختياراً، ولهذا لا توصف بإسلام ولا كفر.

 

هذا من حيث الاستعمال اللفظي، أما من حيث دلالة المصطلح وما يقصد به فعرف إسماعيل الفاروقي (1986م) الأسلمة بأنها:

 

((إعادة صياغة المعرفة على أساس من علاقة الإسلام بها، أي إعادة تحديد وترتيب المعلومات، وإعادة النظر في استنتاجات هذه المعلومات وترابطها وإعادة تقويم النتائج، وإعادة تصور الأهداف، وأن يتم ذلك بطريقة تمكن من إغناء وخدنة قضية الإسلام)) (ص54).

 

وتعريف إسلامية المعرفة عند المعهد لا يختلف عن تعريف الفاروقي، فهي عند المعهد جزء من عملية أكبر هي الأسلمة أو الإسلامية التي هي منهاج للحياة، وإسلامية المعرفة تحديداً عند المعهد هي ((جانب أساس وأولي في بنائها (الإسلامية) ويختص بالفكر والتصور والمحتوى الإنساني القيمي والفلسفي، وكيفية بنائه وتركيبه وعلاقاته في العقل والنفس والضمير)) (ص77).

 

وجعفر إدريس (1987م Idris) حدد مفهوم أسلمة العلوم بأنه بناؤها على أصول الإسلام الثابتة والتقيد بالأخلاق الإسلامية في البحث.

 

وهذه المعاني والتعريفات متداخلة ويؤازر بعضها بعضاً ولا غبار عليها.

 


3 – التأصيل الإسلامي لعلم النفس:

 

في عام 1407هـ عقدت ندوة تحت اسم التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية في مدينة الرياض في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، واعترض على المصطلح باعتبار أن تأصيل علم النفس هو البحث عن أصول شيء موجود، وهذا لا ينبغي، لأن الموجود من علم النفس يعارض الإسلام فلا يصلح بحث أصول له في الإسلام. ويرى المعترضون أنه حتى لو سلمنا أن لا بأس في البحث عن أصول إسلامية لعلم النفس فهذا لا يكفي، إذ لابد من إيجاد بدائل وتصورات جديدة في علم النفس متفقة مع الإسلام، ولهذا فهم يرفضون المصطلح. ورغم أن ندوة جامعة الإمام عقدت تحت عنوان التأصيل الإسلامي إلا أن هذا الاسم انتقد واقترح بديلاً له ((التوجيه الإسلامي لعلم النفس)). وكان لهذا الاقتراح أثره حيث أصبحت هذه المادة تقدم في الجامعة المذكورة تحت هذا الاسم. وهذه الملاحظات لم تمنع بعض الباحثين ممن شاركوا في الندوة كإبراهيم رجب (1412؛ 1416هـ) ومحمد عثمان نجاتي (1411هـ) وصالح الصنيع (1416هـ) من استعمال هذا المصطلح فيما نشروه من بحوث وكتب بعد ذلك.

 

والذي يبدو أن ما ذكر من ملاحظات على مصطلح التأصيل تحتاج إلى إعادة نظر؛ فالتأصيل معناه وضع أصل ولا يلزم منه أن يكون لما هو موجود فربما كان لما لم يوجد. وإذا صح هذا المعنى فلا وجه حينئذ للاعتراض السابق.

 

هذا عن المصطلح من الناحية اللغوية... أما من الناحية الاصطلاحية فعرفه نجاتي (1411هـ) وإبراهيم رجب (1412هـ) بتعريفين متقاربين، وهذا تعريف نجاتي:

 

((نقصد بالتأصيل الإسلامي لعلم النفس إقامة هذا العلم على أساس التصور الإسلامي للإنسان، وعلى أساس مبادئ الإسلام وحقائق الشريعة الإسلامية، بحيث تصبح موضوعات هذا العلم وما يتضمنه من مفاهيم ونظريات متفقة مع مبادئ الإسلام أو على الأقل غير متعارضة معها)) (ص25 – 26).

 

أما أهداف التأصيل عنده فهي الكشف عن آيات الله تعالى وسننه في الإنسان ومعرفة المنهج الأمثل لحياته مما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، ومعرفة أسباب انحراف الإنسان عن الحياة المثلى السوية (نجاتي، 1411هـ).

 

أما تعريف إبراهيم رجب (1412هـ) للتأصيل فهو:

 

((بلورة أبعاد التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والكون واستخدام هذا التصور كأساس معرفي تنطلق منه العلوم الاجتماعية ليكون موجهاً لنظرياتها ومفسراً لحقائقها ومشاهداتها التي ثبتت صحتها بالتجربة أو الدليل العلمي المحقق)) (ص51).

 

وفي بحث لاحق عرف إبراهيم رجب (1416هـ) التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بأنه:

 

((عبارة عن عملية إعادة بناء العلوم الاجتماعية في ضوء التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، وذلك باستخدام منهج يتكامل فيه الوحي الصحيح مع الواقع المشاهد كمصدر للمعرفة، بحيث يستخدم ذلك التصور الإسلامي كإطار نظري لتفسير المشاهدات الجزئية المحققة والتعميمات الإمبريقية (الواقعية) وفي بناء النظريات في تلك العلوم بصفة عامة)) (ص41).

 

وعرفت لجنة التأصيل الإسلامي (1407هـ) في جامعة الإمام محمد بن سعود التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بأنه:

 

((تأسيس تلك العلوم على ما يلائمها في الشريعة الإسلامية من أدلة نصية أو قواعد كلية أو اجتهادات مبنية عليها، وبذلك تستمد العلوم الاجتماعية أسسها ومنطلقاتها من الشريعة ولا تتعارض في تحليلاتها ونتائجها مع الأحكام الشرعية، ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن تدخل العلوم الاجتماعية في إطار العلوم الشرعية وإنما المهم ألا تتعارض معها ولا تتعارض عملية التأصيل بهذا المفهوم العام مع أي تقدم علمي وتطور منهجي لا يناقض المنهج الإسلامي على أساس أن الإسلام دعا إلى العلم وحث عليه)).

 

وواضح من التعريفات السابقة أنه لا يوجد بينها كبير فرق وإن كان تعريف رجب الأخير أكثر دقة في التعبير عن المعنى المراد وخلواً من المترادفات. وواضح أن قول نجاتي ((بحيث تصبح موضوعات هذا العلم وما يتضمنه من مفاهيم ونظريات متفقة مع مبادئ الإسلام أو على الأقل غير متعارضة معها)) لا داعي له وهو تكرار لما سبق في تعريفه، وكذلك تعريف لجنة التأصيل فيه تكرار لا حاجة له، والجزء الأساس في التعريف هو قول اللجنة:

 

((تأسيس تلك العلوم على ما يلائمها في الشريعة الإسلامية من أدلة نصية أو قواعد كلية أو اجتهادات مبنية عليها))

 

وما ورد بعد ذلك في تعريف اللجنة هو إعادة لهذا المعنى ولكن بعبارات أخرى.

 


4 – التوجيه الإسلامي لعلم النفس:

 

اقترح هذا المصطلح فؤاد أبو حطب أولاً في ندوة علم النفس والإسلام التي عقدت في جامعة الملك سعود في الرياض عام 1398هـ، ولكن لم يتلق بالقبول يومئذ، ثم اقترحه في ندوة التأصيل الإسلامي لعلم النفس التي عقدت في جامعة الإمام محمد بن سعود عام 1407هـ في الرياض أيضاً، فقبل. كما طرح الفكرة نفسها تقريباً باحثون آخرون في أوراق قدموها إلى الندوة نفسها.

 

ومفهوم الوجهة عند فؤاد أبو حطب (1412هـ) مرادف للمصطلح الإنجليزي Paradigm، وهو مصطلح تعود أصوله إلى توماس كون أحد فلاسفة العلم المعاصرين. وكُوُنْ في نظريته يرى أن التقدم العلمي لا يتطور من خلال التراكم ولكن من خلال نشأة ما يسميه بالأطر المعرفية التي تكون بديلاً للأطر المعرفية القديمة التي أصبحت في طور أزمة crisis. والإطار المعرفي عند كون سابق على العلم ويؤثر فيه ويوجهه. وهو يتكون من الالتزامات العقلية والاتجاهات الأيديولوجية لدى جماعة من العلماء الذين يتسمون بالتشابه المعرفي. وفؤاد أبو حطب يشتق من هذه العملية مصطلح التوجيه الإسلامي لعلم النفس. وإذا كان تصور كون في مجمله مقبولاً، إذ من المسلم به الآن أن العلم يستند إلى أطر معرفية ومسلمات، فإن ما بناه فؤاد أبو حطب على هذه المسلمة وهو اشتقاقه من هذا العمل اسماً للحركة العلمية كالوجهة أو التوجيه لا ينهض دليلاً كافياً لإلغاء المصطلحات الأخرى وحصر الصواب في هذا المصطلح. وقياساً على رأي أبو حطب ينبغي أن نقول التوجيه السلوكي لعلم النفس بدلاً من المدرسة السلوكية أو التوجيه الإنساني بدلاً من المدرسة الإنسانية أو التوجيه التحليلي بدلاً من مدرسة التحليل النفسي، وهذا لم يقع. نعم طبيعة العمل الذي تسعى إليه كل مدرسة من هذه المدارس هو إيجاد وجهة كما سبق، ولكن التسمية شيء آخر. وعلى هذا فلا يرى الباحث حصر التسمية في الوجهة أو التوجيه كما يرى ذلك فؤاد أبو حطب، كما لا يرى أن هذه التسمية أولى من غيرها.

 

هذا فيما يتعلق بالاسم أما فيما يتعلق بالمحتوى فإن معنى التوجيه لا يختلف عند أصحابه عن معنى التأصيل والأسلمة؛ فدلالة المصطلحات الثلاثة واحدة.

 


5 – التفسير الإسلامي للسلوك:

 

هذا اسم اقترحه البعض، وهو اسم لمقرر في بعض الجامعات السعودية، والمآخذ التي يمكن أن تؤخذ على مصطلح ((علم النفس الإسلامي)) وذكرت هناك في أثناء مناقشة المصطلح يمكن أن تقال هنا والجواب الذي ذكر هناك يمكن أن يذكر هنا. والفرق بين المصطلحين هو أن ((علم النفس الإسلامي)) يبدو أدق في التعبير عن حركة التأصيل من ((التفسير الإسلامي للسلوك))، كما أن المصطلح الأخير عام لا يخص علم النفس فقط، بل يمكن أن يكون التفسير النفسي الإسلامي أو الاجتماعي الإسلامي، وهذا قيد آخر لابد من إضافته إذا أريد استعمال هذا المصطلح في علم النفس.

 

والخلاصة هي أنه بالرغم من أنه لا زال بين الباحثين جدل حول اسم هذه الحركة، إلا أن ملامحها بدأت تتضح وتصبح موضع قبول عند كثير منهم. إن علم النفس الإسلامي ليس فرعاً من فروع علم النفس الديني، وموضوعه ليس فقط دراسة السلوك الديني عند المسلمين أو التراث النفسي في الحضارة الإسلامية، وليس مجرد تفسير الآيات والأحاديث التي لها علاقة بالنفس، ولا و أيضاً رفض كل ما هو موجود في علم النفس المعاصر. إن الواضح من التعاريف التي سلفت هو أن علم النفس الإسلامي أو التأصيل الإسلامي عملية لا تعني إلغاء علم النفس أو العلوم الاجتماعية، وإنما تعني إعادة بنائها وفقاً للتصور الإسلامي، كما تعني أيضاً التزام الخلق الإسلامي في البحث وفي مسار العلم فلا يوجه وجهة تخالف الشريعة أو تضر بالمجتمع بأي وجه من الوجوه. وهذا القيد لا يقل في أهميته عن القيد الأول، وإذا كان القيد الأول يعني بالأصول النظرية للعلم فإن هذا يعنى بتطبيقات العلم. هذا فيما يتعلق بالمحتوى أما فيما يتعلق بالاسم فأي اسم اتسعت له اللغة وكان معبراً عن أهداف حركة التأصيل الإسلامي لعلم النفس يجوز استعماله ولا مشاحة في الاصطلاح. وعلى هذا يرى الباحث أن مصطلحات علم النفس الإسلامي أو التأصيل الإسلامي أو التوجيه الإسلامي كلها مصطلحات جائزة ممكنة الاستعمال من ناحية اللغة ومن ناحية المعنى، ولا حرج في استعمال أي منها.

 


والتحدي الذي يواجه المعنيين بالتأصيل في المستقبل هو التحدي الذي يواجههم الآن، وهو زيادة العناية بتحديد مفهوم التأصيل في جانبيه النظري والعملي. إن تحديد الأسس العلمية التي يجب أن يبنى عليها التأصيل، والضوابط الأخلاقية التي تضبط مسار العلم فلا يخرج عن نفع الإنسان إلى ضده ركيزتان من ركائز التأصيل الإسلامي لعلم النفس بل العلوم الاجتماعية عامة. وحركة التأصيل الإسلامي لعلم النفس مدعوة إلى استكمال هذين الجانبين. وتقويم ما قدمته حركة التأصيل فيما يتعلق بالحديث عن نظرية المعرفة وشروط التأصيل وهذا ما سوف يتطرق له البحث فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

 


نظرية المعرفة:

 

العلوم العامة ومنها العلوم الاجتماعية تخضع لأطر تحدد مجالات بحثها ومناهجها، ومنها تستمد المسلمات التي تستند إليها. وهذه الأطر هي من نوع المسلمات التي يتلقاها الباحثون عادة بالتسليم ولا يعرضون لها بنقاش، بل ربما لا يشعرون بهيمنتها عليهم وتحكمها في أنماط تفكيرهم. والمناسبات التي يقف فيها الباحثون متسائلين عن جدوى الإطار الذي يحكم مسيرتهم العلمية قليلة، ولا تكون عادة كما يرى كون (1970م، Kuhm) إلا في حال واحدة: عندما يعجز الإطار المعرفي عن تفسير بعض الظواهر التي يدرسها أو يعجز عن الإجابة على بعض الإشكالات العلمية التي تثور في أثناء البحث. ومع شعور عدد من دارسي التأصيل بقصور الأطر المعرفية التي تنطلق منها العلوم الاجتماعية في الغرب عن الوفاء بحاجاتهم وتحقيق أهدافهم في التأصيل، اتجهوا إلى زعزعة هذه الأطر والمسلمات والبحث في نظرية المعرفة نفسها وكان التصور الذي يقودهم إلى هذا البحث هو هل نظرية المعرفة التي تستند إليها العلوم الوافدة من الغرب تتفق مع المفهوم الإسلامي لنظرية المعرفة؟

 

من الذين بحثوا هذه القضية جعفر شيخ إدريس (1411هـ) في محاضرة ألقاها في مؤسسة الملك فيصل الخيرية عام 1407هـ، وانتهى إلى أن الإطار الذي تنطلق منه العلوم الإنسانية إطار إلحادي مادي يؤمن بالمادة ويحصر مناهجه في المحسوس فقط. وبحث القضية أيضاً إبراهيم رجب (1412؛ 1416هـ) وانتهى من خلال المنهج التاريخي الذي استعمله إلى أن المنهج السائد الآن يستند إلى ظروف الصراع المرير الذي نشأ في أوروبا بين الكنيسة والعلم، فبسبب هذا الصراع فقط استثنى الباحثون الدين من ميدان بحثهم وقصروا بحوثهم على العالم المادي المحسوس لاغير، ونسبوا ذلك إلى العلم، وسموا هذا العمل بحثاً علمياً وما توصلوا إليه حقائق علمية.

 


ويتفق مع هذين الباحثين عدد ممن كتب في نظرية المعرفة ك عبدالرحمن الزنيدي (1412هـ) في دراسته المقارنة عن مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي في ضوء الإسلام، وراجح الكردي (1412هـ) في دراسته عن نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة.

 

ومن التحديات التي تواجه الباحثين في التأصيل تحديد مسلمات الإطار الإسلامي وتوظيف هذه المسلمات في البحث العلمي توظيفاً يرفع التناقض من ذهن الباحث المسلم. ومحمد عثمان نجاتي (1411هـ) ممن حاول تحديد المسلمات التي يرى أنها تحكم الإطار المعرفي الإسلامي فذكر منها أركان الإيمان ما عدا الإيمان بالقضاء والقدر وذكر منها وحدة الحقيقة وطبيعة الإنسان الثنائية وأن الإنسان خُلق خيّراً ذا إرادة واختيار وأن القرآن والسنة مصدران أساسيان لمعلوماتنا اليقينية عن الإنسان[3].

 

والمسلمات التي هي موضع اتفاق عند عدد من الباحثين في التأصيل (1987م Idris، أبو حطب 1413هـ، تجاتي 1411هـ، الصنيع، 1416هـ) هي وحدة الحقيقة، فلا توجد حقيقة علمية وأخرى دينية؛ فإما أن تكون الحقيقة علمية أو لا تكون بغض النظر عن مصدرها، والمسلمة الأخرى هي أن الكتاب والسنة مصدر ثابت للحقائق العلمية. والتحدي الذي يواجه المشتغلين بالتأصيل هو الجمع بين ما جاء في القرآن وما ثبت عن طريق العلم، أو هو توظيف هاتين المسلمتين في البحث العلمي.

 

والقول بوحدة الحقيقة واعتبار الوحي مصدراً يقينياً لها يجعل عالم النفس أمام ثلاثة أسئلة ضخمة، هي:

 

1 - هل يتعارض اتخاذ الوحي مصدراً للحقيقة مع دعوى الموضوعية في علم النفس وبقية العلوم الاجتماعية.

 

2 - كيف يستطيع عالم النفس أو الباحث في العلوم الاجتماعية عامة دفع التعارض إن وجد بين ما ثبت عن طريق الوحي وما ثبت عن طريق هذه العلوم؟

 

3 - كيف يستطيع الباحث الربط بين المفاهيم النفسية الشرعية ومقابلاتها من المفاهيم التي جاءت عن طريق علم النفس أو غيره من العلوم الاجتماعية؟

 


وقد حاول المشتغلون بالتأصيل الإجابة على هذه التحديات الثلاثة بما يأتي:

 

فيما يتعلق بالسؤال الأول: فقد ناقشه عدد من الباحثين، منهم محمد امزيان (1412هـ)، الذي ناقش مفهومي الوضعية والمعيارية في البحث الاجتماعي، وبيّن الخلفية التاريخية والفلسفية لنشأة مفهوم الوضعية في الفكر الغربي؛ وكذلك جعفر شيخ إدريس (1408هـ) في مقال نشره في مجلة المسلم المعاصر ناقش فيه دعوى التعارض بين إسلامية العلوم وموضوعيتها. وقبل عرض ما توصل إليه الباحثون في هذه المسألة يجب تحديد المقصود بالموضوعية في العلوم الاجتماعية.

 

مصطلح الموضوعية في العلوم الاجتماعية بدأ مع كونت (امزيان، 1412هـ) حينما دعا إلى تقسيم المعارف إلى ذاتية معيارية ووضعية أو وصفية تقديرية، والأخيرة فقط هي التي تستحق الوصف بالعلمية عنده. والعلوم الاجتماعية توصف بأنها علوم موضوعية لأنها تهتم بما هو كائن لا بما ينبغي أن يكون، والمنهج الذي تنتهجه هو المنهج الوصفي التقريري، الذي يصف الظاهرة كما هي في الواقع. وحينما توصف بأنها موضوعية فلأنها ترفض الأحكام المسبقة سواء كان مصدرها الدين أو سواه. ولهذا يلح الباحثون في العلوم الاجتماعية على تجرد الباحث من كل فكرة سابقة تؤثر عليه في توجيه بحثه. وهذا المطلب أصبح الآن موضع نظر عند كثير من الباحثين الغربيين بعد التطور الذي حصل في الفيزياء، فنظرية هايزنبرج مبدأ عدم اليقين (of Uncertainty Principle) ألقى ظلالاً من الشك حول الموضوعية الصارمة. وموجز هذا المبدأ كما شرحه هايزنبرج هو أنه يستحيل على الباحث تحديد موقع الإلكترون وسرعته في وقت واحد (محمود زيدان، 1982م). ولهذا فمحمد امزيان (1412هـ) وجعفر إدريس (1408هـ) كلاهما يقرران أن الباحث يستحيل عليه أن يخلي ذهنه تماماً من الاعتقادات والميول والأفكار السابقة، كما يقرران أيضاً أن الإطار المرجعي لهذه العلوم هو إطار إلحادي مادي معاد للدين. ويقرر جعفر أن أمامنا إذن إطارين فلسفيين يمكن أن توضع فيهما العلوم الاجتماعية: أحدهما هو الإطار الغربي وهو إطار إلحادي مادي كما سبق، وثانيهما هو الإطار الإسلامي المستند إلى الوحي، والباحث مجبر على أن يأخذ أحدهما. وإذا كان الأمر كذلك فما المقصود بالموضوعية؟ يقرر جعفر شيخ إدريس أنالموضوعية إذا كان المقصود بها هو أن يكون الباحث مستعداً لقبول ما دلت عليه المشاهدة وما كان نتيجة لازمة للتجربة أو لازماً عقلياً من لوازمها وأن يكون أميناً في نقل النتائج التي توصل إليها حتى لو خالف ذلك اعتقاداً سابقاً له، إذا كان هذا هو المقصود بها فإن هذا لا يتعارض مع إسلامية العلوم واتخاذ الوحي مصدراً للمعرفة.

 

ويقرر جعفر شيخ إدريس (1408هـ) أن ما يعترف به الإطار الإلحادي من حقائق ليس شيئاً خاصاً به أو ناتجاً عنه وحده، وإنما هو أمر مشترك بينه وبين الإطار الإيماني لأنه ليس في الإطار الإيماني ما يمنع من إدراك أية حقيقة تدرك في حيز الإطار الإلحادي (ص16).

 

أما ميزة الإطار الإيماني كما يرى جعفر فهي أنه إطار العقل الكامل، أي إنه ((يساعد على إدراك حقائق ومؤثرات وتفسيرات أخرى لها نتائج نافعة في حياة الناس العلمية والعملية والنفسية لا مجال لها داخل الإطار الإلحادي)) (ص16).

 

خلاصة ما سبق أنه لا يوجد تعارض بين اتخاذ الوحي مصدراً للعلوم الاجتماعية وموضوعية هذه العلوم.

 


أما السؤال الثاني فعرض له جعفر شيخ إدريس (1987م، Idris) في بحث له، حيث ناقش العلاقة بين ما ثبت بالعقل وما ثبت بالنقل ومدى إمكانية تعارضهما، أو بعبارة أخرى مدى أمكانية التعارض بين القضية الدينية والقضية العلمية، وأفاد بأنه يمتنع وقوع تعارض بين حقيقتين دينية وعلمية أو بين ما ثبت بالوحي وما ثبت عن طريق العلم. والتعارض إذا وقع إما أن يكون سببه سوء فهم لهما جميعاً أو لإحداهما، أو يكون سببه أن ما يظن أنهما حقيقتان ليستا في الواقع حقيقتين، أو أن إحدى الحقيقتين ليست كذلك، أي إن ما يظن أنه حقيقة علمية ليست حقيقة علمية أو ما يظن أنه حقيقة دينية ليست كذلك. وإذا افترضنا وجود تعارض بين قضيتين علمية ودينية فالجمع بينهما لا يكون إلا بتأويل إحداهما كي تتفق مع الأخرى، ويورد جعفر شيخ إدريس رأياً لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الصدد مؤداه تقديم الأرجح من القضيتين وتأويل الأضعف دلالة أو سنداً كي تتفق مع الأقوى.

 

وأما السؤال الثالث فالتحدي الذي يثيره تحد ضخم يصدم كل باحث في علم النفس ولا سيما المشتغلين بالتأصيل، فالباحث النفساني يجد فيما يظهر له مفاهيم في القرآن والسنة يرى أنها متفقة مع مفاهيم وردت في علم النفس فيفسر الأولى بالأخرى أو الأخرى بالأولى، ويرى أن عمله تأصيل. ومحاولات المشتغلين بالتأصيل في الإجابة على هذا السؤال لا تكاد تخرج عن واحدة من ثلاث: التأويل أو الإسقاط، والتوظيف والاشتقاق، والتفسير بالحقائق العلمية مع اصطحاب التصور الإسلامي.

 


1 – التأويل أو الإسقاط:

 

وهو أن يفسر الباحث نصوص الوحي من خلال مفاهيم ونظريات نفسية حتى وإن كانت غير متفقة معها، فيؤول نصوص الوحي كي تتفق مع المفاهيم النفسية الحديثة. والأمثلة على هذا كثيرة، وأكتفي بواحد منها، وهو تشبيه عدد من الباحثين النفسيين (أنظر: الطويل، 1977م، وأبو العزائم، 1398هـ، وإسماعيل، 1398هـ، والسمالوطي، 1400هـ، ومرسي، 1412هـ) أحوال النفس (المطمئنة والأمارة واللوامة) التي وردت في القرآن بأقسام النفس الثلاثة (الهو والأنا والأنا الأعلى) في نظرية التحليل النفسي عند فرويد (1960م).

 

إن هؤلاء الذين سلكوا منهج التأويل والإسقاط يعدون أحوال النفس السابقة أقساماً لها ثم يشبهون هذه الأقسام الثلاثة بأقسامها عند فرويد، فيشبهون الأمارة بالهو ويشبهون اللوامة بالأنا الأعلى. وهذا التشبيه منهم لا يتفق مع المفاهيم القرآنية، لأن الاطمئنان والأمر بالسوء واللوم على التقصير كلها أحوال لنفس واحدة، وهي أحوال تتعاقب ولا تتصارع، أما ((الهو)) و((الأنا)) و((الأنا الأعلى)) فهي عند فرويد كيانات ثلاثة تتصارع فيما بينها داخل جسد واحد. وممن نبه إلى الاختلاف بين المفاهيم القرآنية والمفاهيم الفرويدية فذكر أن الأولى أحوال للنفس بينما المفاهيم الفرويدية أقسام لها محمد عثمان نجاتي (1417هـ) ومحمد محروس الشناوي (1413هـ).

 


وربما بعض من سلك منهج التأويل والإسقاط سلم بأن المفاهيم القرآنية أحوال للنفس وليست أقساماً لها ومع ذلك فهو يؤول المفاهيم القرآنية بما يتفق مع نظرية فرويد فيشبه الحال بالحال – حال الصراع أو حال الاطمئنان في المفهوم القرآني بحال التوازن النفسي في نظرية فرويد. وهذا التشبيه لا يستقيم أيضاً لأن حال الاطمئنان في المفهوم القرآني تختلف عن حال التوازن في المفهوم الفرويدي، هي في المفهوم القرآني حالة خاصة من الاطمئنان قد تكون مصحوبة بحرمان أو عدم إشباع للغرائز سواء كانت جنسية –وهي عظيمة الأهمية عند فرويد – أو غير جنسية، بينما التوازن في المفهوم الفرويدي هو بين مطالب الهو الغريزي والأنا. وهناك فرق آخر بين المفهومين وهو أن منشأ حالة الاطمئنان في المفهوم القرآني هو التدين، والدين عند فرويد نوع من العصاب الجماعي، أما ظاهرة التوازن النفسي عند فرويد فلا علاقة لها بالتدين إطلاقاً إذ هي قائمة على إشباع الحاجات.

 

إن هؤلاء الباحثين الذين سلكوا منهج التأويل والإسقاط فأولوا الآيات القرآنية بما يتفق وما قرره فرويد في نظريته يظنون أنهم بذلك ينصرون الإسلام ويسجلون سبقاً للقرآن، وهذا في الحقيقة ليس فيه ثناء على القرآن أو الإسلام بقدر ما هو ثناء على فرويد وترويج لمدرسته من خلال تقديم مرتكز شرعي لها، وهذا لو كان صحيحاً فإنه لا غبار عليه، ولكن الأمر بخلاف ذلك. وبالإضافة إلى ما ينطوي عليه هذا المنهج من تفسير آيات القرآن ومفاهيمه على غير وجهها، فإن فداحته تظهر بارزة بينة إذا علمنا أن بعض النظريات التي يسقطها بعض الباحثين على النصوص الشرعية هي نظريات ثبت خطؤها وتخلى عنها الباحثون في الغرب، فمثلاً نظرية فرويد في أقسام النفس التي سبقت الإشارة إليها رفضها كثير من الباحثين في الغرب منذ أكثر من نصف قرن والاتجاهات المعاصرة في علم النفس بخلافها.

 


2 – التوظيف والاشتقاق:

 

وهو أن يحاول الباحث الجمع بين المفهوم الذي مصدره الوحي والمفهوم الذي مصدره علم النفس الحديث فيؤلف بينهما مشتقاً مفهوماً جديداً ثالثاً. وهذا لا غبار عليه بشرطين: أولهما أن لا يكون المفهوم الجديد معارضاً لحقيقة علمية سواء كانت شرعية أو غير شرعية، ذلك لأن الحقيقة واحدة كما سبق. أما معارضة نظرية نفسية فهذا مما يحتمل وهو أمر ممكن لأن النظرية غير الحقيقة وهي عرضة للقبول والرد، وثانيهما أن لا يحتوي على تناقض داخلي، فالتناقض الداخلي في النظريات والمفاهيم النفسية سبب في رفض النظرية، ودليل على فشلها.

 

والأمثلة على هذه الطريقة غزيرة، ويحضر الباحث الآن مثال واحد فقط، وهو ربط مالك بدري (1413هـ) بين ما ورد في القرآن من الحث على التفكر في خلق السماوات والأرض وبين مفهوم ((التأمل الارتقائي)) (Transcendental Meditation)، فمن خلال جمعه بين هذه المفهومين حدد أربع مراحل يمر بها التفكير عند المسلم، والمفهوم الذي انتهى إليه لا يتعارض مع حقيقة علمية سواء كانت شرعية أو نفسية، كما أنه يتسم بالاتساق الداخلي.

 


3 – التفسير بالحقائق العلمية مع اصطحاب التصور الإسلامي:

 

وهنا يصطحب الباحث التصور الإسلامي ويعده أصلاً يسير في ضوئه ويعتمد عليه ولا يحيد عنه، ويحاول شرح المفاهيم التي مصدرها الوحي بما ثبت علمياً من خلال التجريب وليس بالنظريات. مثال ذلك كمن يشرح أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الأطفال بالصلاة إذا بلغوا سبع سنين بما ثبت علمياً عن النمو الإدراكي عند الطفل. وفي بعض الأحيان قد لا يجد الباحث حقيقة تجريبية تؤيد المفهوم القرآني وفي هذه الحال عليه أن يعرض المفهوم كما هو من غير تبديل أو تحريف. ويجب عليه في جميع الأحوال استصحاب التصور الإسلامي للقضية التي يريد بحثها ووردت الآيات في سياقها. ولإيضاح هذه المسألة أعود إلى المثل الذي ذكرته عن بعض علماء النفس العرب في تشبيههم أحوال النفس في القرآن بأقسام النفس عند فرويد فأوضح كيف ينبغي فهمه.

 

إن الباحث في علم النفس يستطيع فهم الآيات فهماً سليماً إذا سلم من التأويل والإسقاط وحاول تأملها في ضوء المفاهيم القرآنية محافظاً على الدلالات اللغوية، ففي هذا المثال يستطيع الباحث في علم النفس فهم الآيات المتعلقة بأحوال النفس إذا استصحاب التصور الإسلامي للإيمان في أثناء تأمله للآيات. إن الإيمان في المفهوم القرآني يزيد وينقص. وهو إذا زاد بلغ حال النفس المطمئنة وإذا نقص انحط إلى درجة النفس الأمارة. وبهذا يعلم أن هذه الأوصاف (النفس المطمئنة واللوامة والأمارة) أوصاف لنفس واحدة وليست ثلاث أنفس، وهي بهذا أحوال تتعاقب على النفس الواحدة تبعاً لزيادة الإيمان ونقصه.

 

وعموماً هذه الخطوة ليست يسيرة أبداً على الباحثين لأنها تستلزم أمرين: الأول العلم الشرعي والثاني وجود ضوابط يدرك بها الباحث المقبول والمردود في علم النفس. وهذا يقتضي البحث في موقف حركة التأصيل من علم النفس الحديث.

 


نقد علم النفس الغربي:

 

المقصود بعلم النفس هنا ليس النقد التفصيلي لمسائله، ولكن المقصود به هو النقد العام لمسلمات علم النفس ومدارسه بهدف وضع معيار للمقبول والمرفوض منه.

 

من أول من قدم نقداً موضوعياً لعلم النفس الغربي هو محمد قطب (1408هـ) في كتابه ((الإنسان بين المادية والإسلام)) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1952م. وانتقد في كتابه هذا فرويد والمنهج التجريبي السلوكي.

 

وممن نقد علم النفس  عبدالناصر السباعي (1411هـ) الذي يرى أن ((انفصال علم النفس عن الفلسفة لا يعدو عن كونه وهماً فقط. وليس هناك في الفلسفة ما يسمح لنا بالقول بأن علم النفس انفصل عن الفلسفة في يوم من الأيام)) (ص15)، وانتهى إلى أن التصور الذي وضعه علماء النفس للإنسان لم يكن انطلاقاً من أبحاثهم ودراساتهم بل هو تصور ضمني نشؤوا على التعامل به داخل مجتمعهم، وهم في الحقيقة إنما يجرون أبحاثهم في ضوئه. كما يرى أن علم النفس ((ليس علماً يسعن في إنتاج معرفة موضوعية بالواقع الإنساني بقد ما يعمل على ترسيخ وتبرير تصور قائم حول الإنسان بإضفاء صيغة العلمية والموضوعية عليه)) (ص16).

 


وربما كان مالك بدري (أ1398، ب1398، 1416هـ، Badri ، 1976، 1978م) من أبرز من كتب في هذا المنحى، وله عدد من الدراسات المنشورة، منها دراسته المعنونة بـ((علماء النفس المسلمون في جحر الضب)) المنشورة عام 1976م باللغة الإنجليزية، وقد ترجمت إلى العربية ونشرت في مجلة المسلم المعاصر (1398هـ)، وفي هذا البحث انتقد مالك بدري علماء النفس المسلمين في تقليدهم لعلماء النفس الغربيين، كما انتقد مدرسة التحليل النفسي، ومنها دراسته الأخرى المنشورة باللغة الإنجليزية عام 1978م تحت عنوان The Dilemma of Muslem Psychologists ((أزمة علماء النفس المسلمين))، وفيه ركز نقده على فرويد والاتجاه التحليلي من وجهة نظر العلم التجريبي والطريقة العلمية.

 

أما رؤيته النقدية الشاملة لعلم النفس الغربي فقد عرضها في دراسته التي قدمها إلى المؤتمر العالمي الرابع الذي أقامه المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الخرطوم في السودان عام 1407هـ. في هذه الورقة وضع مالك بدري (1416هـ) معياراً للمقبول والمرفوض من علم النفس وبنى معياره على أن علم النفس هو في الحقيقة علم تجريبي وفلسفة وفن، ويرى أننا نقبل ما كان منه ضمن العلم التجريبي ((بشكل عام ولكننا نرفض خلفيته الفلسفية وبعض أساليبه وممارساته التي تتنافى مع ديننا)) (ص1149) أما ما كان منه ضمن الفلسفة وهو ما نجده في النظريات العامة عن الإنسان وطبيعته فنرفضه و((لكننا لا نستنكف عن الاستفادة من بعض جوانبها المفيدة، فليس هناك شر محض في مثل هذه النظريات)) (ص1149) ((وأما علم النفس كفن أو حرفة دقيقة تحتاج إلى تدريب عملي وخبرة طويلة في الأداء كفنون العلاج النفسي وتطبيق اختبارات الذكاء والتدريس فإنه لا حرج عليها في تعلمها والإفادة منها إلا إذا ناقضت أساليبها ومقاصدها فكرنا الإسلامي)) (ص1149).

 


وقد وضع بدري (1416هـ) قاعدتين تحددان الموقف من علم النفس الغربي:

 

الأولى: ((كلما كانت المواد التي نأخذها من علم النفس الغربي أكثر اعتماداً على البحث التجريبي الميداني، فإنها تكون أكثر قبولاً واتساقاً مع الفكر الإسلامي. وفي المقابل كلما كانت المواد أكثر اعتماداً على النظريات (الأريكية) Armchair Theories  ، فإنها تزداد بعداً عن التصورات الإسلامية...)) (ص1146).

 

الثانية: ((أنه كلما كانت المواد النفسية الحديثة تدرس جانباً محدوداً من السلوك كدراسة الإدراك الحسي أو زمن الرجع أو الذكاء أو تأثير العقاقير العلاجية على السلوك كانت أكثر قبولاً من الناحية الإسلامية، وفي المقابل كلما كانت هذه المواد تهتم بالسلوك الإنساني العام فإنها تزداد بعداً عن المظلة الإسلامية)) (ص1146).

 


هذا الإطار الذي حدد في ضوئه مالك بدري المقبول والمرفوض من علم النفس إطار جيد، ولكن لابد من ملاحظة أن التجارب المعملية هي استجابة لأطر نظرية ومسلمات فلسفية انطلق منها الباحث من حيث يشعر أو لا يشعر. خذ مثلاً التجارب المعملية للمدرسة السلوكية، هذه التجارب ربما تتوفر فيها جميع شروط البحث العلمي الجيد، ولكنها مع ذلك ليست متحررة من تأثير بعض المسلمات الفلسفية، من ذلك مثلاً حصر موضوع علم النفس في السلوك الظاهر فقط واعتبار ما سواه في حكم المعدوم، ومن ذلك القول بآلية السلوك أو آلية الإنسان. هاتان المسلمتان مع غيرهما جعلتا المدرسة السلوكية ترفض بحث جميع العمليات النفسية الداخلية بحجة أنها لا تقع ضمن مجال علم النفس لأنه لا يمكن ملاحظتها. والنتائج التي تأتي من مثل هذه التجارب حتى مع التسليم بصحتها ناقصة لا تعكس حقيقة السلوك البشري. والتجربة قد تتغير نتائجها تغيراً مذهلاً بمجرد إضافة جانب آخر في الشخصية لم يكن ملتفتاً إليه من قبل. خذ مثلاً تجارب التعليم الشرطي عند بافلوف وتجارب المحاولة والخطأ عند ثورندايك وانظر كيف تحولت إلى ما يعرف بالتعليم الفعال عند سكنر، ثم انظر كيف تغير الموقف تماماً بعد إضافة الجانب المعرفي على يد ألبرت باندورا، فوجد عندنا ما يعرف بالتعلم بالقدوة أو نظرية التعلم الاجتماعيSocial Learning theory.

 

إن هذا الإطار الذي اقترحه مالك بدري ضروري لمسيرة التأصيل الإسلامي لعلم النفس، والمؤمل من المهتمين بحركة التأصيل تطوير هذا الإطار وتطبيقه على علم النفس الغربي بتأليف كتاب يحوي فقط الحقائق الثابتة المقطوع بها أو الراجحة غالبة الرجحان. إن مثل هذا الكتاب ضروري للمشتغل بالتأصيل وسوف يختصر عليه وقتاً طويلاً ويعفيه من مظنة بحث شاق في تحصيل الحقائق الثابتة في علم النفس بعيداً عن النظريات والافتراضات الظنية.

 


مفهوم النظرية الإسلامية في التأصيل الإسلامي لعلم النفس:

 

النظرية تكوين افتراضي ليس موجوداً في الطبيعة أو في المعلومات، يستطيع من خلاله الباحث تفسير بعض الظواهر المعينة أو عرض بعض الحوادث التي هو مهتم بها (1985م، Hall & Lindzey). هذا مفهوم النظرية في الدراسات الغربية الحديثة. وهي بهذا مفهوم متغير متطور نام قابل للرفض والقبول. ترى ماذا عن النظرية الإسلامية التي تستند فيما تستند إليه إلى الكتاب والسنة، هل هي متطورة متغيرة أو ثابتة؟ من أو من تحدث عن مفهوم النظرية الإسلامية محمد قطب (1394هـ) في كتاب ((دراسات في النفس الإنسانية))، ففي مقدمة هذا الكتاب شرح محمد قطب تصوره للنظرية الإسلامية وطبيعة العلاقة بين النظرية ونصوص الوحي فقال: "وهذا الكتاب مجرد محاولة في هذا السبيل، وهي مجرد محاولة.. أتحمل مسؤوليتها وحدي، فالإسلام ليس مقيداً بما أقول... وما أزعم أن هذه هي ((النظرية الإسلامية))... إنما أقول فقط إنها نظرية إسلامية... اجتهدت فيها بمقدار ما فتح الله علي من طاقة المعرفة... وهو وحده الموفق إلى الصواب"(ص7 – 8).

 


والقرآن عنده، رغم أنه مصدر النظرية إلا أنه ((ليس كتاب نظريات نفسية أو علمية أو فكرية، ولكنه يحوي التوجيهات الكاملة الكافية لإنشاء هذه النظريات... (ص8). إن الذي في القرآن معلومات عن النفس