التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق

التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق

التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق

د. إبراهيم عبد الرحمن رجب 

مقدمة

على الرغم من حداثة العهد بحركة أسلمة العلوم الاجتماعية أو التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، إلا أن الشعور بالحاجة إلى إصلاح تلك العلوم من منظور إسلامي قد كان أمرا يشغل بال الكثيرين منذ وقت طويل، ولقد مرت هذه الجهود المباركة منذ إرهاصاتها الأولى قبل خمس وعشرين سنة بمجموعة من التطورات المهمة التي تستحق الرصد، ولقد يكون من المفيد اليوم الوقوف أمام هذه التطورات لإلقاء نظرة فاحصة عليها استجلاء لمعالم الطريق واستشرافا لآفاق المستقبل.
والهدف من هذه الدراسة تتبع الاتجاهات العامة التي سارت فيها هذه الجهود إلى الوقت الحاضر، مع محاولة الإشارة إلى بعض الخطوط المحتملة للسير في المستقبل كلما كان ذلك واردا. ولقد كان من الضروري أن نبدأ هدا العرض بلمحة تاريخية نأمل أن تلقي الضوء على بعض المعالم المهمة على طريق حركة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، ثم نتبع ذلك بمحاولة لرصد التطورات التي طرأت على المفهوم والمصطلح، قبل أن نركز اهتمامنا على القضايا المتصلة بمنهج التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، إلى أن ننتهي بمناقشة التطورات التي استجدت في نطاق البحوث التأصيلية وفي مجال الممارسة العلمية المنطلقة من التطور الإسلامي.
ونود أن نشير هنا إلى أننا لم نقصد بأي حال حصر الإسهامات أو الجهود المؤسسية أو الفردية التي بذلت في إطار حركة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية في مختلف أرجاء العالم الإسلامي وفي نطاق العلوم الاجتماعية بفروعها المختلفة إلى اليوم أو تناولها بطريقة نقدية، فذلك أمر يخرج بكل تأكيد عن نطاق بحثنا. ولكننا سنكتفي في هذا البحث برصد التطورات المعرفية التي برزت خلال تلك الفترة بالإضافة إلى العقد السابق لها مباشرة، ذلك الذي شهد عددا من التطورات التي مهدت أمامها السبيل، ونشير إلى أهم القضايا المطروحة في الميدان في الوقت الحاضر، في محاولة لتركيز المناقشة حولها ما أمكن، بما نأمل له فتح الباب أمام التعامل معها بفاعلية بإذن الله. ومن هنا فإنه لا مناص من أن يطبع البحث بصبغة انتقائية، نأمل من قارئنا الكريم أن يكون متسامحا في قبولها بالنظر إلى الأهداف المحدودة. وفي معظم الأحوال فإن الإشارة إلى أعمال بعينها لم يقصد بها أكثر من إعطاء أمثلة يظهر بها المقصود، كما أن معظم الأمثلة التي سقناها قد جاءت مستقاة من علم النفس، أو علم الاجتماع، أو الخدمة الاجتماعية، دون غيرها من فروع العلوم الاجتماعية أو مهن المساعدة الإنسانية، مع أن جهود التأصيل في تلك الفروع الأخرى قد لا تقل-إن لم تزد في بعض الحالات- عما وصفناه في التخصصات التي اقتصرنا عليها.

لمحة تاريخية 

على الرغم من أن اتجاه التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية قد يبدو لنا أحيانا وكأنه قد كان يعيش معنا و نعيش معه منذ أمد بعيد -حتى إن الكثيرين قد أصبحوا اليوم يستبطئون ظهور نتائجه أو يستعجلون بلوغه غاية منتهاه- إلا أن عمر هذا الاتجاه لا يزيد على خمس عشرة سنة في صورته المؤسسية الناضجة، أو خمس وعشرين سنة منذ بدء ظهور إرهاصاته الأولى على أكبر تقدير، وهي فترة تعد في حساب العمر الزمني للإصلاحات الفكرية قصيرة جدا.
ولعل السبب في ذلك الشعور الذي يساورنا يرجع إلى أن معايشة القضية ومعاناة همومنا لم تكن في حقيقة الأمر بالشيء الجديد على الكثيرين من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية أو المعنيين بهموم الأمة، كما أن بعض إرهاصات الإصلاح الفكري المبكرة كانت قد سبقت بوقت طويل ظهور أي كتابات محددة تحت مسمى "التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية" أو غيره "كأسلمة العلوم"، أو "إعادة صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية". غير أن روافد هذه الإرهاصات لم يكتب لها أن يتجمع بعضها مع بعض لتكون ما يشبه هذا التيار المحدد الذي نعايشه اليوم إلا منذ وقت قريب.
والحق أن الكثيرين من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية -من ذوي التبصر والنظر- قد تولد لديهم منذ وقت طويل شعور واضح بالتناقض الكبير بين الأسس والمسلمات التي يقوم عليها بناء العلوم الاجتماعية الحديثة التي درسوها والتي يقومون بتدريسها من جانب، والتصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، وما يترتب على ذلك التصور من فهم للعلاقة والنظم الاجتماعية من جانب آخر.
ولكن الواقع الأليم لعجز الأمة وتخلفها مقارنا بأحوال الأمم الأخرى المتقدمة صناعيا، وما خلفته تلك الفجوة الحضارية بيننا وبين غيرنا من تصدع في وجدان الأمة، ومن شعور عام بالهزيمة بالنظر إلى الذات، وانبهار بالانتصارات العلمية والتكنولوجية "الحديثة" بالنظر إلى الآخر، كل هذا قد نتج عنه اضطرار المشتغلين بالعلوم الاجتماعية إلى التسليم بالأمر الواقع في تلك العلوم على مضض، كما أن ضغط الواقع على أنفسهم قد حال دون تحديدهم لموقف واضح ومحدد وأصيل من ذلك التناقض الصارخ بين التوجه العام لتلك العلوم الاجتماعية الحديثة (المتأثر بالظروف التاريخية للمجتمعات الغربية) وما يشير إليه التصور الإسلامي لمحتوى تلك العلوم من طريق ينبغي أن تسير فيه. 
إلا أن عوامل عديدة قد تجمعت وتقاربت منذ منتصف هذا القرن، فتضافرت -بتقدير الله- على تغيير هذا الموقف تغييرا جذريا، وكان من بين هذه العوالم ما يتصل بتطورات الأوضاع في الدول الإسلامية ذاتها (كالتخلص من الاستعمار، والحصول على الاستقلال السياسي؛ وظهور الفشل الذريع للنظم السياسية والاقتصادية"الحديثة" المستوردة، والشعور بوطأة التبعية للدول المسماة بالعظمى وآثارها، ومحاولات البحث عن الذات والشعور بالهوية الإسلامية)، كما كان منها ما يتصل بأوضاع الحياة في الدول المتقدمة صناعيا (كالتقلبات الاقتصادية والسياسية العنيفة، وظهور الآثار المدمرة للتصنيع على البيئة والإنسان، والتنمية الاقتصادية الانتهازية وما ترتب عليها من سوء التوزيع ومشكلات الفقر المزمن، وانتشار الجريمة والعنف، والتفكك الأسري، والإضطرابات النفسية)؛ وكان منها ما يتصل بالاكتشافات العلمية الرائعة (نظرية النسبية، نظرية الكم، مبدأ عدم التيقن، تطورات علوم الأعصاب الحديثة، فلسفة العلم الجديدة) التي أظهرت خطأ -بل خطيئة- النـزعات المادية المجدبة التي سادت العلوم وفلسفتها منذ القرن التاسع عشر، تلك الاكتشافات التي اقتضت إعادة نظر جذرية في الطريقة التي يرى بها العالِم العالَم، كما اقتضت إعادة نظر جذرية في مناهج البحث التي يصطنعها العلماء للبحث عن الحقيقة.
ولقد نشأ عن تفاعل هذه العوامل جميعها، وعن بدء تشربها في الوجدان المسلم، شعور بضرورة المراجعة الجذرية للمواقف الانهزامية والدفاعية التي أملتها معايشة واقع الهزيمة والخذلان المر الذي عاشه المسلمون على مدى قرنين من الركود والتخلف والقهر، كما ترتب عليها التخفف من وطأة الشعور بانعدام الحيلة التي سادت ردحا من الزمن، فشّلت القدرات الابتكارية لدى أبناء الأمة وقادتها المثقفين. ولعل من الأمور ذات الدلالة الخاصة في هذا الصدد أن ذلك الشعور المتجدد بالهوية الإسلامية، وتلك الرغبة العارمة، في إزاحة كابوس التخلف من خلال التركيز على إصلاح الفكر والمنهج فيما أصبح يعرف بإسلامية المعرفة، قد كان أكثر لدى طلائع من أبناء الأمة المثقفين الذين كانوا يدرسون أو يدرّسون في الدول المتقدمة صناعيا، فجعلهم ذلك في موقع التماس أو الاحتكاك بين الحضارتين، فأعطاهم بصرا واضحا ومتوازن بواقع الحال دونما انهزامية لا مسوِّغ لها أو انبهار لا معنى له. وقد انبثق من هذا كله تيار فكري محدد المعالم، ظهر في عدد من الكتابات والمؤتمرات والمؤسسات التي أعطت القضية بعدا جديدا وانطلاقة جديدة على الوجه الذي نراه ونعايشه اليوم في إطار حركة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية.
وعلى الرغم من الأمة لم تعدم في أي وقت من الأوقات -بفضل الله- أن تجد من بين أبنائها مفكرين ذوي بصر ثاقب ورؤية واضحة مستقيمة، يدركون الحاجة إلى تصحيح المنهج و إصلاح الفكر من أمثال سيد قطب ومحمد قطب، ومالك بن نبي، ومحمد الغزالي، وغيرهم، إلا أن معظم هؤلاء قد جاءوا أفذاذا غير مجتمعين على تيار واحد في أغلب الأحوال، كما أنهم لم يعنوا بإنشاء مؤسسات محددة، تستطيع أن تستوعب رؤاهم، وأن تخرجها إلى حيز الواقع من خلال جهود جماعية قابلة للتراكم. وحتى أولئك الذين تمكنوا من إقامة تلك البناءات كان توجههم إلى العامة -بدلا من التوجه المحدد إلى المتخصصين للعمل معا على إصلاح الفكر والمنهج- قد اضطرهم إلى خوض المطالبات السياسية القريبة التي استنفذت طاقات كان يمكن أن توجه بشكل أكثر فاعلية إلى بناء القواعد العلمية والفكرية والمنهجية التي لا يتم بدونها إصلاح.
فإذا رجعنا إلى قضية تحديد نقطة البدء لحركة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بوصفها أحد أوجه حركة أسلمة المعرفة أو أسلمة العلوم بصفة عامة، فإن بوسعنا أن نشير هنا إلى عدد من التطورات المهمة التي يمكن أن نعدَّ أية واحدة منها بمنـزلة نقطة الانطلاق في التأريخ لهذه الحركة وهي:
1. تأسيس جمعية العلماء الاجتماعيين المسلمين من قبل اتحاد الطلبة المسلمين بالولايات المتحدة وكندا بناء على اقتراح من عبد الحميد أبو سليمان في عام 1392ﻫ/1972م، تلك الجمعية التي جدَّت في البحث عن سبل الإصلاح من منطلقات فكرية وتخصصية وعلمية أصيلة، كما قادت الجهود الرائدة التي بذلت في هذا الاتجاه، تلك التي ظهرت ثمارها في التطورات التالية. 
2. انعقاد أول مؤتمر عالمي للاقتصاد الإسلامي -بناء على توصيات المؤتمر الثاني للندوة العالمية للشباب الإسلامي– في جامعة الملك عبد العزيز عام 1384ﻫ/1974م. وقد كان الموضوع الرئيسي لهذا المؤتمر البحث في إسلامية علم الاقتصاد وإمكانية إنشاء مركز لأبحاث الاقتصاد الإسلامي.
3. انعقاد المؤتمر العالمي الأول للتربية الإسلامية في مكة المكرمة (بدعوة من جامعة الملك عبد العزيز بجدة) عام 1397ﻫ/1977م. وقد حضره عدد كبير من قيادات التعليم العام والجامعي في العالم الإسلامي، وتضمنت بحوثه ومناقشاته نظرة نقدية رصينة لنظريات العلوم الاجتماعية الغربية ومناهجها، ثم انتهت مداولاته إلى الدعوة -وبصورة واضحة تماما- إلى معالجة هذه العلوم (وغيرها) من وجهة "النظر الإسلامية."4
4. انعقاد الندوة العالمية الأولى للفكر الإسلامي في لوجانو بسويسرا عام 1397ﻫ/1977م، حيث انتهت إلى الدعوة إلى إنشاء "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" لقيادة جهود "إسلامية المعرفة" التي كانت قد توضحت أبعادها الرئيسية خلال الندوة، حيث كان هناك اتفاق كبير في الرؤية بين المشاركين من كبار القيادات الفكرية من مختلف أرجاء العالم الإسلامي على أهمية تلك الجهود وعلى أصالة فكرة إسلامية المعرفة.
5. إنشاء المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1401ﻫ/1981م، حيث تأسس المعهد قانونا وإن لم يبدأ فتح مكاتبه الدائمة للعمل إلا في عام 1404ﻫ/1984م. وقد تولى منذ ذلك الحين قيادة جهود إسلامية المعرفة بالتنسيق مع مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحوث في مختلف مناطق العالم الإسلامي.
6. سلسلة اللقاءات العالمية لمؤتمرات إسلامية المعرفة حيث كانت الندوة الثانية تحت مسمى "ندوة إسلامية المعرفة" في إسلام آباد (باكستان) عام 1402ﻫ/1982م5. وقد أسفرت أبحاثها ومداولاتها بوجه خاص عن الاتفاق على "خطة عمل" التي نشرت في كتيب مهم باللغة الإنجليزية بعنوان "أسلمة المعرفة" بتحرير إسماعيل الفاروقي، وقد عرض الكتيب أفكار المعهد الأساسية وخطة عمله6. 
7. نشر الترجمة العربية للمقال المذكور (الذي كان قد قدم ضمن أوراق أعمال مؤتمر إسلام آباد متضمنا عرضا وتلخيصا لفكر المعهد حتى ذلك الوقت) في مجلة المسلم المعاصر عام 1402ﻫ/1982م. وقد كان لهذا المقال صدى واسع لدى كثيرين من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية في العالم العربي، لما تميز به ذلك المقال من وضوح في الرؤية وعمق في التحليل، شعر معه أولئك المتخصصون أن هذا الفكر يعبر بصدق عما تكنه ضمائرهم، وعما كانوا يتطلعون إليه على مدار السنين.
8. نشر كتاب "إسلامية المعرفة: المبادئ العامة -خطة العمل- الإنجازات" الذي عبر عن فكر المعهد ورجاله وخطة عمله. وقد قام إسماعيل الفاروقي يرحمه الله بتحرير طبعته الإنجليزية، وحرر عبد الحميد أبو سليمان نسخته العربية المعدلة الأولى في عام 1406ﻫ/1986م، وقد عدَّ الكتاب دليل عمل منذ ذلك الوقت.
ومن الواضح أن عام 1402ﻫ/ 1982م يبدو كواسطة العقد بين هذه المعالم البارزة على طريق جهود أسلمة المعرفة بصفة عامة وأسلمة العلوم الاجتماعية بصفة خاصة، وذلك يسمح باعتبار بداية القرن الهجري الخامس عشر (بداية العقد التاسع من القرن العشرين الميلادي) بالنسبة لجمهور المثقفين بوجه عام بدء هذه الحركة في صورتها المؤسسية الناضجة من حيث وضوح أبعادها وبدء انتشارها على نطاق واسع.
ولقد توازى مع هذه التطورات في الوقت ذاته، وفي مختلف أرجاء العالم الإسلامي، شعور الجامعات الإسلامية -التي تضم كليات للعلوم الاجتماعية أقساما لفروعها- بأنه ليس من المقبول أن يتم في إطار تلك الكليات والأقسام نقل نظريات العلوم الاجتماعية -المنطلقة في جملتها من تصورات مادية أو إلحادية صارخة- وتدريسها لطلابها، بدون إخضاعها للتمحيص والنقد الصارم، خصوصا أن الهدف من إنشاء تلك الكليات والأقسام في جامعات إسلامية كان إصلاح توجهات تلك التخصصات. فبدأت تلك الجامعات في ذلك الوقت بجهود نشطة لتنقية المواد والمراجع التي تدرَّس فيها مما يخالف التصور الإسلامي مخالفة واضحة، ثم انتهت إلى تبني سياسات واضحة تستهدف بذل جهود مؤسسية منظمة لتحقيق "التأصيل الإسلامي" للعلوم الاجتماعية، وهو اصطلاح تم صوغه في تلك الجامعات-وخصوصا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالمملكة العربية السعودية- والتي شارك في وضع خطة كلياتها للعلوم الاجتماعية ممثلون لكل من جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين والمعهد العالمي للفكر الإسلامي بطلب من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وقد اعتبر مصطلح تأصيل المعرفة تأصيلا إسلاميا بديلا أو مرادفا لمصطلح إسلامية أو أسلمة المعرفة، عودا إلى الأصول وتخفيفا لما قد يتوهم من اهتمام زائد وغير مسوغ بالمصادر الغربية.
ثم إن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واتحاد الجامعات الإسلامية والجامعات الأعضاء فيه، وخصوصا جامعة الأزهر وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كل أولئك نظموا عددا من المؤتمرات والندوات، وقاموا بطباعة عدد من الكتب والبحوث والمقالات التي أسهمت في إيصال الفكرة إلى أعداد كبيرة من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية. 
أما مجلة المسلم المعاصر فقد قامت أيضا بعمل رائد في نشر المقالات والبحوث التي تخدم قضية التأصيل الإسلامي للعلوم، خاصة الاجتماعية منها باللغة العربية. كما قامت المجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية American Journal of Islamic Social Sciences (AJISS) الصادرة عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي وجمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل ذاته باللغة الإنجليزية. وهذا أدى في النهاية إلى تبني القضية من جانب أعداد لا حصر لها من الأفراد المشتغلين بالعلوم الاجتماعية في كل الجامعات العربية وغيرها من جامعات الدول الإسلامية تقريبا، حتى تلك الجامعات التي لم تتبنَّ الفكرة بشكل مؤسسي بعد، ولعل أحدث الجهود في هذا المجال هو إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي مجلة عربية متخصصة في قضايا إسلامية المعرفة وتحمل الاسم نفسه.

المفهوم والمصطلح



لقد مرت المناقشات والكتابات حول مفهوم التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وما ارتبط بذلك المفهوم من مصطلحات، بثلاث مراحل متمايزة نسبيا وان تداخلت فيما بينها، بدءا من مرحلة التعدد والتنوع الشديد، وانتقالا إلى مرحلة ثنائية التوجه، وانتهاء بمرحلة التبادل والتقارب. وقد اتسمت المرحلة الأولى بالعمومية في صياغة المفهوم وفي التعريف به، وارتبط بهذا التعدد في الاصطلاحات التي أطلقت على ذلك المفهوم (أو تلك المفاهيم). أما في المرحلة الثانية فقد بدأ يتبلور رأيان محددان في تناول القضية ارتبط كل منهما بمفهوم ومصطلح مختلفين، أقصد بذلك رأي من التزموا استخدام اصطلاح (أسلمة العلوم الاجتماعية). ورأي من التزموا استخدام اصطلاح (التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية) بمعنى خاص مخالف للاستخدام الشائع اليوم. أما في المرحلة الثالثة فإننا نستطيع أن نلاحظ تقاربا فعليا في الرأي ونوعا من الوحدة في التعبير عن المفهوم واستخدام الاصطلاح، على ما نوضحه بعد قليل. 


المرحلة الأولى: عمومية الصياغات وتعدد المصطلحات
لقد اتسمت الكتابات الأولى حول الحاجة إلى الإصلاح المنهجي للعلوم الاجتماعية وحول ضرورة إعادة صياغتها من وجهة إسلامية، بالعمومية والتركيز على الأهداف أكثر منها على تحديد المنهج وتوصيفه. ويبدو هذا أمرا طبيعيا ومتوقعا في ضوء تركيز الاهتمام في تلك المرحلة على إبراز أهمية القضية، وعرض مسوغاتها، وبيان الخطوط العامة للحل المنشود على وجه الإجمال.
وقد ارتبط "بالاستجابة العامة" للفكرة عند الكثيرين ظهور اجتهادات فردية كثيرة التعدد فيما يتصل بالمضمون (أو المفهوم). وكما سبق أن أشرنا، فإن الكثيرين قد كانوا بالفعل يشعرون منذ وقت طويل بحاجة العلوم الاجتماعية إلى نوع من الإصلاح المبني على أساس التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والكون، مما أعطى كل مشارك بجهد في هذا السبيل شعورا طبيعيا بملكيته لفكرة الأسلمة والتأصيل التي لم تبد غريبة عن أي منهم. ولعل هذا أن يكون أقوى شهادة على أصالة الفكرة، وعلى عمق جذورها في نفوس المشتغلين بالعلوم الاجتماعية من المسلمين وعقولهم، ولكن حصل أن ترتب عن هذا من جهة أخرى أن بعض تلك الاجتهادات قد جاء بالفعل مرتبطا إلى حد كبير "بالدعوة العامة" للأسلمة، ولكن بعضها الأخر قد جاء متأثرا بخلفيات أصحابها ومشاربهم على اختلافها وتنوعها، ومرتبطا بدرجة كمال وعيهم بالقضية أو خلطها بغيرها مما قد يقترب منها أو يبتعد عنها.
ومن هنا فقد رأينا كل مشارك بجهد في هذه المرحلة يقدم لنا "تصوره" للمفهوم الذي يدافع عنه بقوة الاقتناع (الذي حرم أحيانا من سعة الإطلاع!)، بل ويحاول أن ينحت لنفسه اصطلاحا يظنه أقرب للتعبير عن هذا التصور، فوجدنا إلى جوار اصطلاح أسلمة المعرفة أو إسلامية المعرفة (الذي كان أسبقها في الوجود) اصطلاحات أخرى مثل التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وإعادة صياغة العلوم الاجتماعية من وجهة إسلامية، والتوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وبناء العلوم الاجتماعية على منهج الإسلام، وتأسيس العلوم على الأصول الإسلامية...الخ. حتى أن الكثيرين ضاقوا ذرعا بهذا التعدد في المصطلحات وفي التصورات الضمنية الكامنة وراء كل منها، ورأوا فيه توقفا عند اللفظيات والعموميات دون تحقيق أي تقدم حقيقي في فهمنا للقضية الأساسية، ودون أي تراكم للجهود العلمية التي تبذل في بحثها. وظل الأمر كذلك إلى أن بدأت الجهود التأصيلية تتجه صوب بحث المنهجية التفصيلية، حيث أسفرت المناقشات التي دارت حول تلك الجوانب الأكثر تحديدا عن شيء من التضييق لنطاق الخلاف. عن ظهور اتجاهات محددة في النظر للمفهوم، كما أسفرت عن ظهور تقارب في اختيار المصطلح كما سنرى في الصفحات الآتية.


المرحلة الثانية:رأيان في تناول القضية 


بدأ يتحدد في هذه المرحلة رأيان واضحان في تناول القضية وقد استخدم أصحاب كل من الرأيين اصطلاحا بعينه ليكون علما على اتجاههم. وقد عبر عن هذين الرأيين اصطلاح الأسلمة (أو الإسلامية) واصطلاح التأصيل الإسلامي (أو التوجيه الإسلامي). والحق أنه قد يكون باستطاعتنا تفسير الاختلافات بين الفريقين في ضوء اعتبارات تاريخية أو جغرافية بعينها، ولكننا في الوقت ذاته ندرك الآن أيضا أن للقضية إبعادها النظرية والمنهجية... فمن الممكن أن لفظ الأسلمة مثلا كان اسبق في الظهور تاريخيا، وأنه قد شاع استخدامه على نطاق واسع بين المهتمين بالقضية في دول غير إسلامية كالولايات المتحدة، أو دول غير عربية مثل باكستان (التي تبنت برنامجا طموحا "لأسلمة" كل جوانب الحياة فيها)، في حين أن اصطلاح التأصيل قد ظهر في فترة لاحقة في الدول الإسلامية والعربية منها خصوصا وهكذا... ولكن لا يبدو أن هذه الاعتبارات التاريخية أو الجغرافية كافية وحدها لتفسير الخلاف الذي ظهر بين أصحاب الرأيين، وهذا يوجهنا للبحث عن الأبعاد التصورية التي يبدو أنها كانت تكمن وراءه. 
من المعلوم أن هناك اتفاقا يشبه الإجماع –بين المهتمين بإصلاح العلوم الاجتماعية وبزيادة فعاليتها من خلال إعادة صياغتها في ضوء التصور الإسلامي- على أمور ثلاثة على وجه الإجمال، هي:
1. أن مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها، والمسلمات الأساسية التي تقوم عليها تلك العلوم في صورتها الراهنة، تتضمن كثيرا مما يتعارض أو يتناقض مع التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والمجتمع والوجود.
2. أنه قد ترتب على هذا القصور والاختلال المعرفي عجز تلك العلوم، أو على الأقل قصورها حتى الآن، عن التوصل إلى تفسيرات مرضية للسلوك الفردي، أو للظواهر الاجتماعية، لا في المجتمعات الإسلامية وحدها وإنما في غيرها من المجتمعات كذلك.
3. أن هناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر في تلك المناهج والنظريات والمسلمات بطريقة جذرية في إطار التصور الإسلامي.
أما فيما وراء هذا الاتفاق العام فإن المناقشات في هذه المرحلة قد أسفرت عن وجود بعض الاختلافات حول نقطة البدء في الإصلاح المنهجي المنشود، حيث بدأ يظهر نوع من التمايز بين نظريتين مختلفتين أو توجهين لا يصل اختلافهما إلى مستوى تكوين مدرستين محددتين (وذلك بالنظر إلى الاتفاق العام على المسلمات الأساسية السالفة الذكر).
1. التوجه الأول: وقد فضل أصحابه استخدام اصطلاحات أسلمة العلوم الاجتماعية، أو إسلامية العلوم الاجتماعية، للدلالة على المهمة المتفق –إجمالا- عليها من الجميع، ألا وهي صبغ العلوم الاجتماعية بالصبغة الإسلامية الصحيحة. والغالب أن معظم أصحاب هذا الاتجاه هم من المتخصصين في العلوم الاجتماعية، الذين يرون أن جوهر المهمة الإصلاحية المطلوبة إنما يتمثل أصلا في تصحيح مسار هذه "العلوم الاجتماعية"، وذلك من خلال نقدها نقدا شديدا في ضوء التصور الإسلامي، واستبعاد مالا يصمد منها للنقد، واستبدال ما يصح في ضوء الكتاب والسنة به، مع استكمال ما هو صحيح منها كخطوة مبدئية لابد منها نحو تطوير مستقل أصيل لقضايا المعرفة الإنسانية من منظور إسلامي ينبع من الكتاب والسنة ويفيد من التراث الإسلامي وما صلح –وفقا للمعايير الإسلامية- من إنجازات العلوم الغربية الحديثة. ولا يرى أصحاب هذا الرأي عادة أي غضاضة في استخدام ألفاظ قوية كالأسلمة للتعبير عن هذا المعنى، إذ أن الكثيرين منهم يعيشون في مجتمعات غير عربية، أو مجتمعات غير إسلامية ذات اتجاهات عدائية نحو عقيدة التوحيد.
2. التوجه الثاني: ويفضل أصحابه استخدام اصطلاحات كالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، أو التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية ويغلب أن يكون هؤلاء أقرب إلى المتخصصين في العلوم الشرعية ممن يرون أن نقطة الانطلاق للتحقيق الإصلاح المنشود ينبغي أن تكون البدء من الكتاب والسنة، والمصادر الإسلامية المتفرعة منها، مع عدم الاعتداد بما وصل إلينا من هذه العلوم الاجتماعية الحديثة التي لا يرون فيها خيرا، بسبب ما بنيت عليه توجهاتها الأساسية من استبعاد للوحي مصدرا للمعرفة، وبسبب ما شاع فيها من معادات للدين. ويظهر هذا في تعريفهم للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بأنه "إبراز الأسس الإسلامية التي تقوم عليها هذه العلوم، من خلال جمعها أو استنباطها من مصادر الشريعة وقواعدها الكلية وضوابطها العامة، ودراسة موضوعات هذه العلوم في ضوئها، مع الاستفادة مما توصل إليه العلماء المسلمون وغيرهم مما لا يتعارض مع تلك الأسس."7 ولا يرى أصحاب هذا التوجه معنى لاستخدام اصطلاح "الأسلمة" في مجتمعات مسلمة أساسا ومطبقة لشرع الله، حتى لو كانت العلوم الاجتماعية فيها وافدة من مجتمعات علمانية تستبعد الدين من توجيه الحياة.
ولا يسع المنصف إلا التسليم بأن العلوم الاجتماعية الحديثة، وان اشتملت على الكثير مما يعترض عليه بقوة، إلا أنها في الوقت ذاته تتضمن الكثير مما يمكن أن يستفاد منه وخصوصا في الجوانب التالية:
1. ما ليس له تعلق شديد أو استناد مباشر إلى المسلمات المتصلة بوجهة النظر عن الحياة والوجود والكون، أو المسلمات المتصلة بالمعرفة ومصادرها المرفوضة إسلاميا، ومثالها ما يتصل بدراسة الآليات (أو الوظائف) النفسية كدراسة الإدراك والتذكر، أو العمليات الاجتماعية كعملية التنظيم الاجتماعي "في جوانبها الإجرائية" وغير ذلك مما تمكن فيه الاستفادة من جهود رجال العلوم الاجتماعية الحديثة مع شيء من التعديل المحدود.
2. ما يتعلق مباشرة بتلك المسلمات المعرفية وتلك المتصلة بوجهة النظر عن الوجود، ولكنه ليس تعلق تعارض أو تناقض مع المنظور الإسلامي، وإنما يتضمن فقط إهمالا أو استبعادا لبعض الجوانب التي يمكن استكمالها في ضوء بصائر التصور الإسلامي، دون أية حاجة إلى تدميرها أو إنكارها كليا. وتلك هي الحالة التي تقابلنا مثلا عندما نحاول إصلاح المنهج العلمي للبحث في العلوم الاجتماعية عن إضافة الوحي مصدرا للمعرفة، بما يستكمل ويتوج عمل الحواس (والعقل) التي أسرفت النظرات الوضعية والتجريبية (الإمبيريقية) المتطرفة وغالت في الاعتماد عليها وحدها.
ولا يمكن والحال كذلك أن نلقي وراءنا ظهريا بكل ما أسفرت عنه جهود كثير من العلماء والباحثين على مدى السنين في أطار هذه العلوم الاجتماعية الحديثة بكل ما نتج عنها من خير أو ما بها من وهن، تخوفا من أن يتسرب إلينا ما في بعض تلك النتائج من أخطاء. وهذا يرتب علينا بالضرورة مسؤولية كبرى تتمثل في الإدراك الصحيح للمسلمات التي تكمن وراء أكثر المفاهيم براءة في الظاهر، حذرا من الوقوع في إسار الفئات الفكرية الغريبة عن المنظور الإسلامي، الشائعة في إطار تلك العلوم. وهذا أمر لابد من النهوض بتبعاته بقوة وثقة بالله سبحانه وتعالى ذلك أن التخوف والتقوقع والتردد لا يمكن أن يأتي بشيء إيجابي أو ابتكاري يعين على الحياة، بل إن ذلك الموقف في الحقيقة أكبر معوق للنمو والتقدم، فالأمر يتطلب إقداما وعملا إيجابيا في ظل وعي صادق واثق يؤمَن معه التهور والزلل. فإذا أضفنا إلى ذلك إمكانية التصحيح الذاتي التي يقوم بها العلم الحديث، فإنه يتبين لنا أن أي ابتعاد عن الجادة، أو وقوع في الأخطاء، نتيجة العمل العلمي الإيجابي، يمكن -بالنقد والتمحيص الذي يقوم به الباحثون الآخرون- معالجته و تصحيحه ولو بعد حين.
المرحلة الثالثة: التبادل والتقارب: يبدو أننا قد وصلنا اليوم إلى مرحلة يوشك أن يتحقق فيها ما يشبه الإجماع على الاصطلاح والمفهوم، على وجه يتضمن شيئا من التكامل بين التوجهين السابقين أو التبادل بينهما على الصورة الآتية:
1. لقد أصبح التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية الذي كان يفضله أصحاب التوجه الثاني يحضى بقبول غالبية المهتمين بالقضية في الكتابات باللغة العربية، مع اعتبار ذلك الاصطلاح في الوقت ذاته مرادفا لاصطلاحIslamization of the Social Sciences في الكتابات الأجنبية.
2. ومع ذلك فإن هذا الاصطلاح: "التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية" قد أصبح اليوم يستخدم بدلالة "المفهوم" الذي كان يدعو إليه أصحاب التوجه الأول (أسلمة أو إسلامية العلوم الاجتماعية). وهذا يعني أن جوهر المهمة التأصيلية وفق هذا المفهوم إنما يتمثل في تصحيح مسار "العلوم الاجتماعية" القائمة أكثر من أن يكون إنشاء فروع جديدة من "العلوم الشرعية" التقليدية تكون مختصة بدراسة الظواهر الاجتماعية، وذلك في ضوء اقتناع متزايد بأن مناهج العلوم الشرعية قد كانت تركز تقليديا على الاستنباط من النصوص أكثر من تركيزها على الدراسة الواقعية الميدانية، مما يجعل استخدام تلك المناهج الأصولية التقليدية -التي أثبتت الأيام كفاءتها الكبرى في الوصول إلى الأحكام التكليفية- غير ملائم للقيام بتلك المهمات الجديدة، اللهم إلا بإعادة نظر وإضافات كثيرة.
وعلى العكس من ذلك، فإن استكمال النقص في مناهج العلوم الاجتماعية، أو تغيير بعض مكوناتها، يبدو أقرب وأيسر كثيرا من تطوير مناهج العلوم الشرعية من حيث قدرتها على الاضطلاع بهذه المهمة الجديدة، وذلك مع إدراك كامل بأن هذا لا يعني بأي حال إضفاء أي نوع من الأفضلية أو الأسبقية للعلوم الاجتماعية الحديثة في ذاتها من حيث "توجيه" نتائج العلوم الاجتماعية المؤصلة، كما أنه لا يعني استخدام نتائج الدراسة الميدانية (الإمبيريقية) للواقع الاجتماعي مصدرا معياريا للتوجيه المجتمعي، أو حكما على مسيرة الحياة الاجتماعية، فذلك أمر يتنافى أصلا مع التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود الذي هو محور الجهود التأصيلية.
هذا هو الموقف كما يبدو للمتابع لجهود التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية أو إسلامية المعرفة اليوم. ولا يعني هذا أن ما أشرنا إليه من تقارب ووحدة نسبية في المفهوم والمصطلح يمثل خاتمة المطاف للاجتهادات في هذا المجال (بالنسبة للمفهوم والمصطلح)، بل إن الأولى أن تبقى آفاقنا مفتوحة دائما لتتسع لكل اجتهاد أصيل يثري ويدعم الجهود المبذولة في هذا السبيل.


تعريف التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية


يبدو لنا مما سبق أنه من الممكن تعريف التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية على الوجه التالي، وهو تعريف نظن أنه يعبر بشكل مقبول عن الصورة الراهنة لإدراكنا لهذا المفهوم:
"التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية عبارة عن عملية إعادة بناء العلوم الاجتماعية في ضوء التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، وذلك باستخدام منهج يتكامل فيه الوحي الصحيح مع الواقع المشاهد بوصفهما مصدرين للمعرفة، بحيث يستخدم ذلك التصور الإسلامي إطارا نظريا لتفسير المشاهدات الجزئية المحققة والتعميمات الواقعية (الإميبريقية)، وفي بناء النظريات في تلك العلوم بصفة عامة".
ولعل تحقيق قدر كاف من الاتفاق حول المفهوم والاصطلاح في هذه المرحلة أن يكون إيذانا بالخروج من مرحلة الحديث "عن" التأصيل أو "حول" التأصيل إلى مرحلة البحث "في التأصيل"، بمعنى التحول من تناول القضايا التي تدور حول ماهية التأصيل ومسوغاته إلى القيام ببحوث تأصيلية محددة، أي التركيز على عملية التأصيل ذاتها، وصولا إلى نتائج عملية مؤصلة، تطبيقا لمنهجية التأصيل.


المنهـج


لا شك في أن قضية التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، أو إسلامية المعرفة كما نراها ويراها كثير من المفكرين، وكما يركز عليها المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الأدبيات الصادرة عنه -في جوهرها- قضية منهج في المقام الأول، ويترتب على ذلك حقيقة أن التقدم في بقية الجوانب الأخرى للقضية كالبحوث والممارسة وإعداد الكتب الجامعية المؤصلة إنما هو رهين بتحقيق التقدم في مسألة المنهج أولا.
ولكن المتتبع لكتابات التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية لا يملك إلا أن يلاحظ ندرة الإسهامات التي تصدت بصورة مقصودة وتفصيلة لقضية المنهجية، فأدى ذلك ضرورة إلى ضعف الإسهامات في مجال البحوث التأصيلية والممارسات المؤصلة، والواقع أن هناك عددا من الأسباب والعوامل التي يمكن أن نعزو إليها ندرة الإسهامات التي قدمت في خدمة موضوع المنهجية منها ما يأتي: 
1. ما سبق أن ذكرناه من إنفاق الكثير من الوقت والجهد في تناول قضية المفهوم والمصطلح وما دار حولها من خلافات في المراحل السابقة.
2. عمومية التناول في معظم الكتابات حول التأصيل في المراحل السابقة أيضا، وتركيز تلك الكتابات على ما يتصل ببيان الأهداف النبيلة للمشروع (وهذا موضوع مأمون العواقب يندر الخطأ فيه!)، مع الإشفاق في الوقت نفسه من التعرض للتفصيلات التي يتطلبها الخوض في مسائل المنهج، تحسبا من الوقوع في المخالفات لما هو متعارف عليه في العلوم الشرعية، أو الوقوع في الأخطاء فيما هو متعارف عليه في العلوم الاجتماعية الحديثة.
3. الصعوبة الحقيقية في طرق موضوع لم يتعرض له السابقون، ولم تبذل فيه محاولات جادة من اللاحقين، ألا وهو ابتكار طرق صحيحة لإيجاد "تكامل" بين منهجين قد انفصل كل منهما عن الآخر ردحا طويلا من الزمن، واختط كل منهما لنفسه طريقا مستقلا لا يكاد يرى غيره، وأعني بذلك مناهج العلوم الشرعية ومناهج العلوم الاجتماعية الحديثة. 
وينبغي أن ندرك أن هذا الانفصال والاستقلال -غير المشروع عقلا وشرعا- بين هاتين المنهجيتين وبين الرجال الذين يحملون همهما ويمثلون رموزهما (منهجية العلوم الشرعية ومنهجية العلوم الاجتماعية الحديثة) قد ترتب عليه أن كل فريق من الفريقين -حتى بعد أن يصل إلى الاقتناع بضرورة التكامل بين المنهجيتين أساسا للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية- يحاول جذب المفهوم والاصطلاح (كما رأينا من قبل) في اتجاهه وصوب تخصصه، مع تفاوت بين الباحثين في درجة تشبثهم يألفون وإنكارهم لما لا يعرفون. وقد ظهر أثر ذلك بوضوح في ل المحاولات القليلة التي تناولت قضية منهجية التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية.
اتجاهان في قضية المنهج 
لقد أشرنا في غير هذا الموضع 8 إلى وجود تفاوت واضح في وجهات النظر حول " مركز الثقل في المنهج" الذي يظهر في بروز اتجاهين متمايزين يبرزان مرحلة الثنائية التوجه وهما: 
الاتجاه الأول: وهو اتجاه يرى أصحابه اتخاذ العلوم الشرعية نموذجا للتأصيل، حيث لا يخرج التأصيل في جوهره عندهم عن كونه "استخلاصا واستنباطا من المصدرين الأساسيين للشريعة: القرآن والسنة". ومن هنا يصبح التركيز في منهجية التأصيل وفق هذا التصور على "الاستنباط من النصوص"، ويصبح المحك الرئيسي في الحكم على صدق النتائج أو خطئها هو مدى "صحة الاستنباط من المصادر الشرعية وسلامتها"، بدون أية إشارة إلى درجة تطابق النتائج مع الواقع. ولقد عبر أحد المهتمين بقضية التأصيل من كبار المتخصصين في العلوم الشرعية عن هذا المعني بقوله: "إن المطلوب هو وضع منهج للتأصيل على غرار منهج الأصوليين والحديثيين"، ويمكن الرجوع إلى ما عرضه أحد الباحثين مما يشبه ترجمة لهذا الاتجاه في شكل خطوات إجرائية محددة إلى الورقة المشار إليها آنفا.
الاتجاه الثاني: وهو اتجاه يرى أصحابه الانطلاق من نموذج العلوم الاجتماعية الحديثة، مع القبول بإجراء "بعض" التعديلات على ذلك النموذج في ضوء ما يوجه إليه من "نقد من الداخل"، وذلك على أساس أنه لا تعارض في رأي أصحاب هذا الاتجاه بين ما تدعو إليه المنهجية العملية الحديثة والتوجه الإسلامي من حيث الاعتماد فيهما على الدراسات الواقعية التي تستهدف "الوصف" الدقيق تعرفا على آيات الله في الخلق، كما تستهدف "التفسير" كشفا عن سنن الله في مخلوقاته، وخاصة إننا نستخدم في الوصف والتفسير ما زودنا الله به من نعم وخاصة "الحواس والعقل" على حد تعبير احد أساطين ذلك الاتجاه.
ولعل من الأمور التي تستوقف الانتباه هنا أن الكثيرين من الباحثين الجادين ممن قد يرون وجها أو آخر من هذه التوجهات لا يبدون مهتمين بالتفاعل بشكل كاف مع أصحاب الرأي الآخر، أو بالتعامل الرصين مع ما يسوقه الآخرون من حجج لدعم آرائهم، سواء بتفنيدها أو قبولها، مع بقاء كل فريق قانعا بما لديه، راضيا بما ترضى عنه المؤسسة العلمية التي ينتمي إليها، أو الجمهور المحدود الذي يخاطبه، فأسهم ذلك في تعطيل مسيرة البحث المجدي لتطوير منهجية سليمة للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية على وجه يمكن أن تتكامل فيه على الحقيقة كل من مناهج العلوم الشرعية ومناهج العلوم الاجتماعية الحديثة.
وعلى أي حال فإنه يبدو أن الكثيرين قد بدأو اليوم يدركون انه لا مناص للجميع من التسليم بأن أي منهج صحيح للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية لا يمكن أن يقف على ساق واحدة أبدا، وأن علينا أن نبذل الجهود التعاونية لابتكار تلك الصورة الفريدة التي يتم فيها الجمع بين المنهجيتين على وجه يتناسب تحديدا مع طبيعة الضوابط الإنسانية والاجتماعية.
تعريف منهج التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية
ومن هنا، وفي ضوء تعريف التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية الذي أوردناه في المبحث السابق، وفي ضوء التقارب الحديث في الآراء فإنه قد يكون من الممكن تعريف "منهج" التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية على أنه:
"الطريقة المنظمة للبحث التي تستخدم في دراسة الظواهر الاجتماعية من التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود على وجه يجمع بين المناهج الأصولية المعتمدة في الاستنباط من نصوص الكتاب والسنة، ومناهج البحث الواقعية (الميدانية) المعاصرة بصورة تكاملية".
ويتضمن هذا التعريف تلك العناصر أو الأبعاد الآتية التي نوردها على وجه الإجمال:
1. تحديد أبعاد التصور الإسلامي الشامل للإنسان والمجتمع والوجود، استخلاصا من المنابع الرئيسية للمنهج الإسلامي التي تتمثل في الكتاب والسنة الصحيحة، مع الاستفادة من اجتهادات علماء المسلمين من السلف والمعاصرين، المستمدة من تلك المنابع الرئيسية والملتزمة بها؛ وتحديد ما يتضمنه هذا التصور فيما يتصل بالمجال العام الذي تشمله اليوم العلوم الاجتماعية الحديثة.
2. حصر نتائج "البحوث العلمية الموثقة" في نطاق العلوم الاجتماعية الحديثة، وحصر "نظرياتها"، وتحليلها، وإخضاعها للتمحيص والنقد في ضوء مقتضيات ذلك التصور الإسلامي سواء من حيث الموضوع أو المنهج.
3. بناء نسق علمي متكامل، يضم ما صح من نتائج العلوم الحديثة، وما صمد للتمحيص والنقد من نظرياتها، ثم يربط بينها وبين ما توصل إليه علماء المسلمين من حقائق وتعميمات برباط تفسيري مستمد من التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود.
4. استنباط فروض مستمدة من ذلك النسق العلمي المتكامل الذي تم التوصل إليه فيما سبق، وإخضاع تلك الفروض للاختبار في أارض الواقع، للتحقق من صدق الاجتهاد البشري المتضمن بالضرورة في عملية بناء أي نسق علمي نظري.


الإجراءات المنهجية للتأصيل 


لعله من الممكن ترجمة هذه العناصر المجملة إلى إجراءات تفصيلية محددة يمكن إتباعها من جانب الباحث في التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، في صورة مجموعة من الخطوات العملية كما يأتي:
أولا: تحديد أبعاد التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، ليكون بمنـزلة الإطار المرجعي العام والمعيار الأساس الذي يحتكم إليه عند القيام بالخطوات اللاحقة وبصفة خاصة فيما يلي: 
1. عند النقد والتقويم لمفاهيم العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها. 
2. عند وضع الأطر النظرية المفسرة لأي ظاهرة أو قطاع من الظواهر الاجتماعية المترابطة.
ويتم التوصل إلى ذلك التصور المرجعي العام -بطبيعة الحال- عن طريق تطبيق المناهج المستخدمة في علوم الدين الإسلامي، وخصوصا أصول الفقه (مع تطويره ليناسب القيام بهذه المهمة الإضافية المتمثلة في استنباط الأطر التصورية العامة بدلا من الاقتصار على المهام التقليدية المتصلة باستنباط الأحكام التكليفية الجزئية).
ثانيا: حصر حقائق ونظريات العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها المتصلة بالموضوع المراد بحثه، ثم إخضاعها للتمحيص الصارم، وتقويمها لاستنقاذ ما يصمد منها للنقد في ضوء:
أ‌. تحليل الأصول التاريخية التي تطورت عنها إسهامات هذه العلوم الحديثة، وفهم العوامل التي أثرت على مسيرتها حتى وصلت إلينا على الصورة التي نجدها بين أيدينا اليوم.
ب‌. معطيات التصور الإسلامي العام للإنسان والمجتمع والوجود (المشار إليها في أولا).
ثالثا: استجلاء موقف الإسلام وعلماء المسلمين من الظاهرة أو القضية موضوع الدراسة رجوعا إلى القرآن الكريم وتفسيره، والى السنة الصحيحة وشروحها، وإلى إسهامات علماء المسلمين من القدامى والمحدثين المتصلة بالموضوع، وذلك باستخدام المناهج المعتمدة في الاستنباط من النصوص (على الوجه المبين في أولا).
رابعا: بذل الوسع لبناء نسق علمي متكامل على ما يأتي: 
أ‌. ما صمد للنقد والتمحيص من نتائج العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها (التي انتهينا إليها في ثانيا).
ب‌. ما تم التوصل إليه استنباطا من المصادر الشرعية حول موضوع الدراسة (ثالثا أعلاه). 
ويربط بين هذين العنصرين برباط تفسيري مستمد من التصور الإسلامي العام للإنسان والمجتمع والوجود (الموصوف في أولا)، وذلك باستخدام القواعد المنطقية والشرعية المناسبة.
خامسا: استنباط فروض علمية مستمدة من ذلك النسق المتكامل (الموصوف في رابعا)، وإخضاع تلك الفروض للاختبار في أرض الواقع (بمعناه الشامل المتضمن لما يمكن مشاهدته بالحواس، ولما تظهر آثاره في عالم الشهادة مما ليس خاضعا في ذاته للإدراك الحسي) وذلك بهدف التحقق من صحة اجتهادات الباحثين (المتضمنة بالضرورة في صياغتهم لأبعاد الأطر التصورية العامة، وفي إسقاطهم للتفسيرات على المشاهدات الجزئية الواقعية)، وذلك باستخدام مناهج البحث العلمي المطبقة في العلوم الاجتماعية الحديثة (مع تعديلها أيضا بما يناسب القيام بالمهمة الجديدة المتصلة بالتعامل مع الجوانب الروحية والعوامل الداخلية غير المحسوسة بدلا من التعامل مع المحسوسات وحدها في النموذج التقليدي).
سادسا: النظر في نتائج اختبار الفروض في أرض الواقع ومراجعتها للتوصل إلى أكبر قدر ممكن من التوافق بين الأطر التصورية والنتائج الواقعية وهذا قد يتضمن:
أ‌. المراجعة المتأنية والفاحصة للإجراءات المنهجية التي اتبعت في البحوث الواقعية للتحقق من صدقها الداخلي والخارجي، وإعادة النظر فيها لتلافي أوجه قصورها.
ب‌. إجراء التعديلات المناسبة في الأطر التصورية التي استمدت منها الفروض، لمعالجة ما يمكن أن يكون قد وقع فيه المنظرون من أخطاء في الاستنباط، خصوصا عند ضم النصوص بعضها إلى بعض، توصلا إلى الأطر التفسيرية العامة. مع ملاحظة أنه يستحيل وجود أي تناقض حقيقي بين وحي صحيح يقيني الدلالة يقيني الثبوت وبين نتائج المشاهدات الواقعية الممحصة الشبيهة باليقين.


البحـوث 


لقد تبين لنا من العرض السابق أنه من الممكن القول بوجود قدر معقول من الاتفاق اليوم حول ماهية منهج التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وكذا حول ترجمة هذا المنهج إلى إجراءات تفصيلية محددة على وجه يتحقق فيه التكامل بين الوحي والعقل والحواس بوصفها مصادر لمعرفتنا بالإنسان والمجتمع، ولعله أن يكون قد تبين لنا بصفة خاصة من استعراض تلك الإجراءات المنهجية أن جوهرها في نهاية المطاف يدور حول إجراء البحوث الواقعية لاختبار الأطر التصورية المستمدة من فهمنا للوحي في الواقع الكلي (الذي يشمل الظواهر الإمبريقية وغير الإمبريقية في الوقت ذاته) لضمان التأكد من مطابقة تلك الأطر التصورية للواقع. 
فإذا صح ما ذهبنا إليه، فإن السؤال الذي ينبغي أن يثار هنا الآن يتعلق بالمدى الذي وصلت إليه البحوث التأصيلية من حيث التطبيق الفعلي لهذه المنهجية أو غيرها في أرض الواقع، ذلك أن كل المناقشات حول المفهوم والمصطلح أو حول الإجراءات المنهجية لا تخرج في الحقيقة عن كونها نوعا من التمهيد الضروري لقيامنا بالمهمة الأصلية، ألا وهي إجراء البحوث التأصيلية التي تسهم في بناء نظريات في العلوم الاجتماعية تنطلق من التصور الإسلامي، ولكنها في الوقت ذاته تستوعب الصحيح من الحقائق والتعميمات التي توصل إليها العلماء في فروع تلك العلوم إلى اليوم، وبما يؤدي فوق هذا كله إلى إضافة إنتاج علمي جديد مؤصل على وجه غير مسبوق.
غير أنه قد يكون من المناسب، قبل أن نتطرق للحديث